رسالة الترحيب



ومــا كـنـت مـمـن يـدخـل العـشـق قلـبـه -
و لـكــن مـــن يـبـصـر جـفـونـك يـعـشــق
.




بحث هذه المدونة الإلكترونية

14‏/10‏/2012

موت إيفان إيليتش

موت إيفان إيليتش

في عام 1869، وبعد أن انتهى من كتابة روايته "الحرب والسلام"، مرّ ليو تولستوي بأزمة روحية عميقة نتيجة حادثة حصلت له أثناء رحلة عبر مدينة أرزاماس التي تقع على نهر تايوشا وتبعد حوالي 250 ميلا إلى الشرق من موسكو. تولستوي وصف تلك التجربة في قصّته "مذكّرات رجل مجنون". وقد اختار لها هذا العنوان لأنه كان مقتنعا بأن القرّاء سيجدون القصّة غير قابلة للتصديق.
بعد ساعات قليلة من منتصف إحدى الليالي استيقظ تولستوي من نومه وقد استولى عليه اليأس والرعب كما لم يحدث له من قبل. وبعد أن سأل نفسه عن سبب خوفه وحيرته، جاءته الإجابة سريعا: أنا هنا". ولم يكن المتحدّث سوى الموت. تولستوي كان يواجه حتمية موته ويشعر بالرعب والهلع من سلطة الموت.
ظلّت ذكرى تلك الليلة المؤرّقة تلازم تولستوي بقيّة حياته، وأصبح مشغولا بشكل دائم بفكرة الفناء. وعندما كتب اعترافاته بعد ذلك بعشر سنوات تساءل: هل يبقى لحياتي أيّ معنى في ظلّ حتمية اقتراب الموت؟". وانهمك في تأمّلات طويلة وشاقّة. زوجته سونيا التي عانت معه طويلا تصف ما حدث بقولها: كثيرا ما كان يقول إن دماغه يؤلمه. كانت هناك عملية مؤلمة تجري في داخله، كان كلّ شيء بالنسبة له قد انتهى، وحان الوقت لكي يموت".
رعب تولستوي في أرزاماس، كما اسماه صديقه الكاتب الروسي مكسيم غوركي، كان هو الأساس الذي بنى عليه تولستوي روايته القصيرة والبارعة "موت إيفان إيليتش". ومنذ ظهور هذه الرواية عام 1886، والنقّاد والقرّاء يشيدون بها باعتبارها تحفة أدبيّة. وقد اكتسبت الرواية سمعتها بسبب مقاربتها المعاصرة والثوريّة لفكرة الموت.
إيفان إيليتش، المحميّ بأمان في عالم من الامتيازات والرفاهية، يعمل قاضيا في المحكمة العليا في سانت بطرسبرغ القيصرية. وهو لم يفكّر ذات يوم في الموت. ثمّ، في احد الأيام، وبينما كان يحاول مساعدة نجّار في تعليق ستارة في إحدى غرف منزله، يقع إيفان عن السلّم. في البداية يهنّئ نفسه على أنه نجا من الحادث، باستثناء إصابة بسيطة في فخذه. لكن مع مرور الوقت، يكبر الألم ويصبح إيفان منهكا ومكتئبا وغير قادر على استجماع ما يكفي من طاقته للتحرّك بعيدا عن الأريكة.
الأطبّاء يرفضون الاعتراف بأن إيفان إيليتش في طريقه لأن يموت. زوجته وابنته تصبحان ضجرتين من حاجته الدائمة للراحة والدعم العاطفي. الجميع تخلّوا عنه باستثناء خادمه الأمين، غيراسيم. لقد تُرك إيفان إيليتش كي يواجه الموت لوحده. وفي النهاية يموت في بيته ببطء وبكثير من الألم والوحدة.
والنتيجة هي أننا بمواجهة قصّة محزنة ومليئة بالعواطف في تفاصيلها اليومية المعتادة وفي جمال نثرها، ما يؤهّلها لأن تكون واحدة من أكثر الأعمال الأدبية إثارة للمشاعر.
الكتابة عن الموت لم تكن بالأمر الجديد. في القرن التاسع عشر، كان الموت موضوعا مفضّلا للرومانسيين وللكثير من الكتّاب الذين أتوا بعدهم. وقد ابتكر هؤلاء أبطالا من جميع الأنواع: عشّاق يموتون موتا مأساويا، وفنّانون معذّبون ووحيدون تنتهي حياتهم بطريقة جميلة ومؤلمة في الوقت نفسه، ورجال شجعان يضحّون بأنفسهم في المعارك ويواجهون الموت ببسالة.
الشيء الجديد في رواية تولستوي هو الطريقة التي واجه بها بطلها الرئيسي الموت. فعندما يقع إيفان فريسة للمرض، يكتشف انه غير قادر على أن يستمتع بشيء، وأن الأصدقاء الذين تعرّف عليهم ليسوا أصدقاء حقيقيين، وأن عائلته لا تحبّه حقّا، وأنه أصبح لوحده تماما. كما يكتشف أن أيّا من الأشياء التي قام بها في حياته لم تعد تعني له شيئا.
تبدأ الرواية في اللحظة التي يعرف زملاء إيفان إيليتش عن وفاة صديقهم. ثم، فجأة تتحوّل إلى "فلاش باك" يعرض لتفاصيل من حياة إيفان إيليتش، كالقرارات التي اتخذها، ولماذا وكيف أخذها، وكيف أثّرت تلك القرارات على حياته. لقد أصبحت حياته مادّية وتفتقر إلى أيّ نوع من العاطفة. ثم يقع حادث صغير يتسبّب في وفاته قبل الأوان. وبالقرب من نهاية حياته، يضطرّ لأن يتصالح مع حقيقة أن الموت أمر لا مفرّ منه. وعندما يتقبّل هذه الحقيقة يتبيّن له انه رغم انه عاش حياته بطريقة صحيحة اجتماعيا، إلا انه لم يعش الكثير منها على الإطلاق.
ثم يشرح تولستوي بشكل مؤلم كيف أن أحدا لا يبدو مهتمّا بـ إيفان إيليتش عندما يموت. زملاؤه عندما يسمعون عن خبر موته يقرّون بأن تلك صدمة. لكن سرعان ما يتحوّل اهتمامهم إلى الحديث عن الترقيات والفرص الوظيفية الجديدة. زوجة إيفان، براسكوفيا، لا تختلف كثيرا عن زملائه. إنها لا تأبه كثيرا بحقيقة أن زوجها مات وتبدو مهتمّة أكثر بالتفكير في حظّها العاثر.
تولستوي نفسه كان بعيدا جدّا عن كونه سعيدا عندما كتب هذه الرواية. قبل أن يبلغ الخمسين، كان قد كتب الحرب والسلام (1869)، وآنا كارينينا (1877)، اللتين تعتبران من بين الروايات العظيمة. ولم يكن مفاجئا أن تولستوي أصبح بعد كتابته هاتين الروايتين احد أشهر الكتّاب في العالم.
لكن برغم كلّ هذه الشهرة والانجازات الكثيرة، مرّ تولستوي بعد كتابته "آنا كارينينا" بما يُسمّى أزمة منتصف العمر. وقرّر انه لن يستطيع الاستمرار في العيش ما لم يجد للحياة معنى. ولم تنته تلك الأزمة إلا بعد أن تحوّل جذريا عن المسيحية. وهي تجربة غيّرت كلّ أفكاره تقريبا. وقد أعلن عن تحولّه ذاك عام 1881 في كتاب اسماه "اعترافات". في مقطع من يوميّاته التي كتبها آنذاك، يقول تولستوي: الموت الهادئ تحت تأثير طقوس الكنيسة هو مثل الموت تحت تأثير المورفين".
بعد ذلك توقّف تولستوي عن النظر إلى نفسه كفنّان وبدأ يكتب عن الدين والسياسة، وأصبح يدعو إلى اللاعنف والحياة البسيطة. كما أخذ أتباعه يتردّدون على ضيعته لسماع آرائه عن الحياة والوقوف على تجاربه في تطبيق أفكاره المثالية.
"موت إيفان إيليتش" كان أوّل عمل أدبيّ مهم كتبه تولستوي بعد تحوّله الديني. والرواية، بالإضافة إلى كونها مواجهة قويّة مع مشكلة الموت ومعنى الحياة، تنطوي كذلك على سخرية حادّة من أسلوب حياة أفراد الطبقة الوسطى الحديثة كما يجسّدها إيفان إيليتش. كان تولستوي يراقب موقف هؤلاء من الحياة وهو يتشكّل في أيّامه. وكان يعتقد أن الذين يتبنّون هذه النوعية من الحياة غير قادرين على مواجهة الموت لأنهم لم يفهموا الحياة.
بعض القرّاء أعجبوا بالرواية بسبب رسالتها الأخلاقية القويّة. لكن آخرين رأوا فيها بداية النهاية لـ تولستوي كفنّان، وأنه بمجرّد أن بدأ يلعب دور الواعظ الأخلاقي، فقدت كتاباته تعقيدها ووهجها وأصبحت ذات بعد واحد.
رسالة تولستوي في "موت إيفان إيليتش" تقول: من السهل أن تنسى الموت في خضمّ انشغالك بالرياضة والمدرسة والمواعيد والأعمال اليومية الروتينية. ومع ذلك فإننا جميعا في طريقنا لأن نموت في وقت ما. وحتى لو لم يقع لنا حادث سخيف يؤدّي بنا إلى مرض طويل كما حدث لـ إيفان إيليتش، فإننا ما نزال نواجه الموت. إن من السهل نسيان الموت عندما يبدو كلّ شيء على ما يرام. وهذا هو السبب في أن إيفان لم يكن يفكّر فيه. ولكن هذا لا يهمّ. فالموت زحف إليه عندما لم يكن يتوقّعه.
العمق السيكولوجي لهذه الرواية ربّما يساعدنا في أن نتفهمّ ما يمرّ به أناس كثيرون عندما يموتون. يقول إيفان لأطبّائه في احد أجزاء الرواية: إنكم تعرفون جيّدا أنكم لن تتمكّنوا من فعل أيّ شيء لمساعدتي، لذا اتركوني وشأني". فيجيب احدهم: نستطيع أن نخفّف من معاناتك. فيردّ إيفان قائلا: لا يمكنكم حتى أن تفعلوا ذلك. فقط اتركوني وشأني"!
إيفان إيليتش كان يلعب دوره المرسوم له سلفا في الحياة. كان ناجحا جدّا في عمله. لكنه، كقاض في المحكمة، لم يكن لديه سوى القليل من المشاعر. كان يجرّد الناس من إنسانيتهم وينظر إليهم على أنهم مجرّد "قضايا" وليس أكثر. الشكليات عنده كانت أكثر أهمّية من أيّ نوع من الشعور الإنساني. أطبّاؤه جلّ ما يشغلهم هو البحث في أسباب مرضه. وهم ليسوا منشغلين بما إن كان سيعيش أو يموت، تماما مثلما أن إيفان نفسه لم يكن يهتمّ أبدا بما إن كانت أحكامه القضائية منصفة أو ظالمة.
إيليتش يشير في الرواية إلى انه تزوّج لأن المجتمع كان يريد ذلك. وهو يقرّ بأنه لم يكن يحبّ زوجته حقّا. كان يظنّ أن الزواج أمر مناسب فحسب. حياته العائلية استمرّت في التفكّك، لكنّه كان يتجاهل هذا دائما. كما أصبح مهووسا بالأشياء المادّية. ودائما ما كان يركّز على إثارة إعجاب المجتمع به وتحقيق الراحة والمكانة الشخصية، وليس على رفاه عائلته. وفي الساعات الأخيرة من حياته، يدرك إيفان انه كان على خطأ طوال الوقت. وبدلا من الصعود في الحياة مثلما كان يظنّ، كان يتّجه إلى القاع.
في نهاية الرواية، يموت إيليتش على الرغم من جهود طبيبه الماهر والمحترم، ولكن ليس قبل أن يحقّق قدرا من الخلاص. كما انه يجد بعض العزاء في اعتقاده بأن موته من شأنه أن يخفّف من معاناة عائلته والقائمين على رعايته.
نموذج تولستوي من الوجودية يظهر في هذه الرواية في أجلى صُوَره. الفكرة الوجودية القائلة بأن "الوجود يسبق الجوهر" تعني أن وجود الإنسان لا هدف له ولا معنى محدّدا سلفا، وإنما يُخلق كلّ إنسان ومعه حرّيته في الاختيار. أي أن الوجود هو في النهاية ضرب من العدم. وإذا كنّا نبحث عن معنى خارجي، ثابت ونهائي، فإن عملية البحث هي في حدّ ذاتها عقيمة وعبثية. السبب في موت إيفان إيليتش كان سقوطه من على سلّم نقّال بينما كان يعلّق ستارة. وجزئية الستارة، كونها المتسبّب في سقوطه ومن ثمّ موته، تعكس هذا النوع من العبث الوجودي.
نظرية تولستوي الجمالية تعكس المعتقدات الدينية التي أصبح يعتنقها بعد أزمته العميقة المتعلقة بمعنى الحياة وحتمية الموت. و"موت إيفان إيليتش" كان أوّل كتاب أصدره بعد أن خرج من فترة الأزمة والتحوّل.
غيراسيم، خادم إيفان، مزارع بسيط وعلى الفطرة. وهو الشخص الوحيد الذي يشفق على إيفان إيليتش ويتلمّس احتياجاته ويلبّيها. انه يمسك بساقيه كي يخفّف ألمه، وأحيانا يظلّ على تلك الحال طوال الليل. إيليتش يشعر بتحسّن في حالته عندما يلمسه خادمه، ما يوحي بأن ليس هناك ما هو أقوى من تأثير اللمسة الإنسانية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون غيراسيم هو الشخصية الوحيدة التي تعترف بأننا جميعا سنموت وأن الأمر في النهاية لا يمثّل مشكلة. انه يجسّد الإيمان البسيط والأخوّة الإنسانية والصدق، أي القيم التي كان تولستوي يثمّنها في الحياة وفي الفنّ ويربطها بالفلاحين.
كان تولستوي يجد معنى في الحياة البسيطة للفلاحين وفي إيمانهم البسيط بالله. وقد تخلّى عن الأشياء الدنيوية وعن الجنس والكحول. بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما بدأ يصنع أحذيته بنفسه.
تولستوي يشير في هذه الرواية إلى حقيقة سيكولوجية، وهي أن معظم الناس يعتقدون أنهم لن يواجهوا الموت مع انه قد يحدث لغيرهم. وهم ميّالون لأن يَظهروا أمام الآخرين بطريقة مناسبة ولائقة. لذا فإنهم يزيحون جانبا كلّ الأشياء غير المريحة من خلال تجاهلها ببساطة.
تولستوي أيضا يوضّح أن المجتمع لا يأبه كثيرا بالعواطف الإنسانية. وهذا هو السبب في أن الناس يصبحون باردين وبلا مشاعر.
الموت، حسب تولستوي، يحدث لنا جميعا، حتى لو كانت تلك حقيقة غير سارّة. وعندما يواجه الناس هذه الحقيقة فإنهم يدركون أن لا شيء يعوّض عن الترابط الإنساني والتعاطف مع الآخرين. وإذا ما فطن الناس إلى هذه الحقيقة، فإن باستطاعتهم أن يتجاوزوا عقدة الخوف من الموت وينظروا إلى ما هو ابعد منه.
بعض النقّاد يعتبرون "موت إيفان إيليتش" أشهر روايات تولستوي بعد "الحرب والسلام" لسبب وجيه. فهذه الرواية هي من أكثر الأعمال الأدبية تعذيباً وإثارة للأسئلة. إنها عبارة عن تحديق في هاوية سحيقة؛ ليست الموت فحسب، وإنما أيضا الطبيعة البشرية نفسها.
وقراءة الرواية مسألة ضرورية، ليس لأنها مَعلَم أدبيّ كبير فحسب، وإنما أيضا لأنك، إن لم تقرأها، فستفقد جزءا من صورة ما يعنيه أن تكون إنساناً. "مترجم".



آخر أيّام تولستوي

قبل حوالي مائة عام، توفّي ليو تولستوي عن عمر يناهز الثانية والثمانين بعد أن عانى من التهاب رئوي حادّ. وقد تابع العالم آنذاك أخبار مرض تولستوي ونقلت الصحف في روسيا وخارجها أحوال مرضه يوما بيوم. ولم يكن تولستوي على علم بتلك الضجّة التي كانت تثور من حوله.
وقبل وفاته بتسعة أيّام، كان الكاتب المشهور قد ترك منزله في ياسنايا بوليانا سرّا عند الفجر بصحبة سكرتيره الخاصّ. كان واضحا أن تولستوي اتخذ قراره النهائي بأن ينفصل عن حياته العائلية ويرتاح من شجار زوجته الدائم مع سكرتيره. وفي الليلة التي غادر فيها منزله كتب يقول: لقد فعلت ما يفعله الناس في مثل سنّي. قرّرت أن اترك الحياة الدنيوية وأقضي أيّامي الأخيرة في هدوء وعزلة".
وفي طريقه إلى محطّة القطار، عرّج على دير شيماردينو لرؤية شقيقته، وقضى ليلة في فندق بجانب أحد الأديرة. ثم غادر مرّة أخرى في الرابعة فجرا باتجاه الجنوب.
هروب تولستوي من ياسنايا بوليانا أصاب معاصريه بالذهول. البعض رأى في تصرّفه "تحرّرا بطوليّا" من قيود الحياة وإزالة للحواجز الأخيرة بينه وبين الله. الصحافة الروسية وصفت قرار تولستوي بأنه "انتصار روحي"، بينما وصفه بعض الكتّاب بالمأساة العائلية.
موت تولستوي، مثل حياته، كان حدثا تاريخيا، خاصّة في روسيا. فقد تقاطر الكتّاب والفنّانون والأتباع والفلاحون على ضيعته واكتظّت القطارات من موسكو إلى كراسنايا بالناس الذين قدموا لحضور جنازته. وحمل نعشه حشد من الفلاحين، وأنشدت اللحن الجنائزي جوقة من مائة مغنّ، ومشى في أثر النعش موكب من حوالي عشرة آلاف شخص.
ولم يكن هناك رجال دين في الجنازة، إذ كانت الكنيسة قد أصدرت قرارا بطرد تولستوي منها قبل ذلك بسنوات، بعد أن صرّح علناً بأن علاقته مع الله لا تحتاج لوسطاء.
الكنيسة كانت أخذت على تولستوي أيضا بعض كتاباته التي رأت أنها أسهمت في تسريع صعود البلاشفة إلى الحكم في روسيا عام 1917م.
بعد الثورة، وصف لينين تولستوي بأنه "مرآة الثورة الروسيّة"، متجاهلا أفكاره السلمية وإيمانه بالله. ومن خلال تحويل البلاشفة تولستوي إلى رمز لهم، فإنهم في نهاية الأمر أفرغوه من أهميّته.
كان البلاشفة على علم بانتقادات تولستوي الجريئة لسلطة القيصر. وكانوا يدركون مكانته كأحد أعظم الكتّاب في العالم. كانت أفكاره وكتبه أثمن من أن يتركوها خارج قانونهم الفنّي. لذا كان يجب أن تُروّض وتُهذّب كي تنسجم مع قيودهم الأيديولوجية التي فصّلوها سلفاً.
قرار طرد تولستوي من الكنيسة ما يزال سارياً إلى اليوم. ومؤخّرا اتهم مجموعة من المثقفين الروس الكنيسة بالعناد لإصرارها على إبقاء الكاتب المشهور على قائمتها السوداء وبالتحكّم في أمور السياسة والثقافة في البلاد.
وفي مواجهة مطالب عائلة تولستوي وأصدقائها بإلغاء قرار الطرد، أصدرت الكنيسة بيانا قالت فيه إن أعمال تولستوي جميلة ولا يمكن نسيانها، وأنها، أي الكنيسة، سمحت للناس بالصلاة على روحه والدعاء له بالرحمة". وأضاف البيان أن تولستوي شخصية مأساوية في تاريخ الأدب الروسي، وأنه استخدم موهبته لتدمير النظام الروحي والاجتماعي التقليدي للبلاد".
وكان "المجمّع المقدّس" قد اصدر قرارا عام 1899 بحظر كلّ صلاة لتذكّر تولستوي أو الترحّم عليه بعد وفاته باعتباره مرتدّا.
كان أمرا محزنا، وإن لم يكن مفاجئا، أن تمرّ الذكرى المئوية لوفاة تولستوي قبل عامين دون أن يلحظها احد في روسيا. كان تولستوي يعارض العنف الذي تمارسه الدولة. وقد وصف الدولة بأنها سيطرة الأشرار المدعومين بالقوّة المتوحّشة. وكان يرى أن اللصوص اقلّ خطرا من الحكومة المنظّمة. كما دعا إلى فكرة المقاومة السلمية وشجب كافّة أشكال الحروب.
وكان تولستوي أيضا يعتبر تحالف الكنيسة مع الدولة ضربا من التجديف والكفر. كما كان يعتقد بأن الارستقراطية تشكّل عبئا كبيرا على الفقراء. وعارض الملكية الخاصّة وانتقد مؤسّسة الزواج. وكان يثمّن كثيرا فكرة العفّة والكفاف الجنسي.
تولستوي ينتمي إلى عائلة بالغة الثراء. لكنّه أصبح يؤمن بأنه لا يستحقّ الثروة التي ورثها عن عائلته. وقد عُرف في أوساط المزارعين والفقراء بسخائه. وكان يوزّع مبالغ كبيرة من المال على المتسوّلين والمستحقّين، وهو أمر كان يثير حنق زوجته في اغلب الأحيان. وقبيل موته أعلن عن تخلّيه عن عائلته وثروته مفضّلا أن يعيش بقيّة عمره كراهب متجوّل.
هذه المبادئ لم يعد لها مكان في روسيا اليوم التي ابتعدت كثيرا عن قيم وأفكار تولستوي.
وتجاهُل روسيا لواحد من أعظم الكتّاب في البلاد يبدو غريبا، خاصّة إذا ما تذكّرنا أن اثنتين من رواياته، الحرب والسلام وآنا كارينينا، احتلّتا مؤخّرا المرتبتين الأولى والثالثة، على التوالي، ضمن أفضل عشر روايات في العالم. بل إن بعض النقّاد يذهب إلى أن رواية الحرب والسلام تتفوّق في قيمتها الإبداعية حتى على إلياذة هوميروس.
فلاديمير تولستوي، احد أحفاد تولستوي، انتقد بمرارة إصرار البطريرك الذي يأتمر بأوامر فلاديمير بوتين على رفض الاستجابة لنداءات العائلة برفع قرار الطرد الكنسي الذي ما يزال مطبّقا منذ أكثر من مائة عام.
ليوبولد سولرجيتسكي، احد أصدقاء وأتباع تولستوي، كتب يقول إن لـ تولستوي شخصيّتين: تولستوي العظيم وتولستوي الحقيقي. تولستوي العظيم ما يزال حيّا وسيبقى معنا إلى ما لا نهاية. أما تولستوي الحقيقي، أي الإنسان الرحوم والرقيق والصبور والمملوء إنسانية وتواضعا فقد ذهب إلى الأبد".
وهذا التقييم يتوافق مع سيرة جديدة لـ تولستوي كتبتها روزاموند بارتليت بعنوان تولستوي: حياة روسية. وهو كتاب مليء بالمعلومات والحقائق التفصيلية عن حياة تولستوي وأفكاره.
تذكر بارتليت في كتابها أن انطون تشيكوف، وكان احد أصدقاء تولستوي المقرّبين، قال ذات مرّة: تخيفني فكرة أن يموت تولستوي. وإذا مات فإنه سيترك ولا شكّ فراغا كبيرا في حياتي. وطالما انه حيّ، فإن موجة الابتذال والرداءة والقبح في الأدب ستبقى بعيدا في الظلمة الخارجية".
تشيكوف لم يعش ليشهد موت تولستوي. فقد مات بمرض السلّ قبل ستّ سنوات من وفاة تولستوي وعن عمر لا يتجاوز الرابعة والأربعين. لكنه كان مصيبا في أن وجود تولستوي كان يفرض قيودا أخلاقية معيّنة على المجتمع الروسي.
في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1910، هرب تولستوي من بيته عند منتصف الليل برفقة سكرتيره وإحدى بناته. وعلى فراش الموت، استقبل عددا قليلا من أتباعه وبعض أبنائه. واتفقوا جميعا على انه لا يجب السماح لـ صوفيا، زوجة الكاتب، برؤيته. وفي النهاية، وبعد أن فقد وعيه رضخوا لطلبها. ودخلت وركعت عند سريره بينما كان يحتضر. وقد كتبت في مذكّراتها في ما بعد تقول: لم يُسمح لي أن أقول لزوجي وداعا. أولئك الناس القساة".
عاشت صوفيا اندرييفنا تسع سنوات بعد وفاة تولستوي. وبقيت في ياسنايا بوليانا حتى بعد أن أحكم البلاشفة سيطرتهم على روسيا. كانت تتمنّى أن تُدفن إلى جوار زوجها في الضيعة التي عاشا فيها لأكثر من 48 عاما. لكن لم تُحترم تلك الرغبة. وعندما توفّيت في نوفمبر من عام 1919، دُفن جثمانها في مقبرة في كوتشاكي على بعد ميلين من قبر تولستوي.
كان تولستوي شخصية ذات تأثير هائل، سواءً في أعماله أو في حياته.
وفي سيرته، كان من المحتّم أن تكثر التناقضات: الجنديّ الشابّ الذي أصبح فيما بعد واحدا من دعاة السلام الأكثر صخبا في زمانه. و زير النساء الذي تُسجّل يومياته الطويلة صراعه مع دوافعه الجنسية، والذي أصبح بعد ذلك احد أكثر الناس عفّة وصرامة في عصره. والارستقراطي الذي أصرّ في وقت لاحق على أن يهب حقوق مؤلّفاته وكتبه إلى العامّة مجّانا. والناشط الاجتماعي الذي سُجن رفاقه وزملاؤه من المفكّرين والكتّاب أو أرسلوا إلى المنافي، بينما تمتّع هو بالحماية من قبل أقاربه في البلاط الإمبراطوري.
المكان المناسب للبدء في التحقّق من هذه الشخصيّة المتناقضة هو ياسنايا بوليانا، الضيعة التي وُلد فيها تولستوي وقضى الشطر الأكبر من حياته.
هذا المكان يعكس، أكثر من أيّ مكان آخر، طبيعة الرجل. والحقيقة أن ياسنايا بوليانا لم تتغيّر كثيرا منذ أن تركها تولستوي قبل أكثر من قرن. وما يزال بالإمكان الوصول إليها عن طريق زقاق تصطفّ على جانبيه أشجار البتولا.
بعد وفاة تولستوي عام 1910، مُنحت بعض أراضي الضيعة للفلاحين الذين كانوا يخدمونه. بينما أعيد توزيع أجزاء من الأرض بعد قيام الثورة عام 1917. الإسطبلات ما تزال تؤوي بعض الخيول حتى اليوم. الغريب أن بيت تولستوي نجا من فوضى ثورة 1917، عندما تمّ نهب الكثير من الممتلكات والبيوت المجاورة.
ارتباط عائلة تولستوي بـ ياسنايا بوليانا ما يزال قويّا إلى اليوم. وبعد رحيل تولستوي، تولّت صوفيا، زوجته، المسئولية عن المنزل والعقارات الملحقة به. كانت، حتى وفاتها عام 1919، تصطحب الضيوف الكثيرين الذين كانوا يزورون الضيعة، في حين تولّت الكسندرا، الابنة الصغرى لـ تولستوي، هذه المسؤولية خلال العشرينات قبل أن تغادر الاتحاد السوفياتي نهائيا عام 1928م.
خلال العصر السوفياتي، احتفلت الدولة بالذكرى المئوية لميلاد تولستوي عام 1928 وبالذكرى الخمسين لوفاته في عام 1960م. وحظيت المناسبتان بتغطية واسعة في الصحافة. وكان ذلك أمرا مثيرا للاهتمام. فالعلاقة بين السلطات السوفياتية وأفكار تولستوي كانت متوتّرة. وأفكاره السلمية أصبحت غير مقبولة بشكل متزايد بالنسبة إلى النظام الجديد.
إذا نظرنا إلى الوراء وقارنّا بين أوضاع روسيا زمن تولستوي وحالة البلاد الآن سنجد بعض أوجه الشبه المذهلة. فهناك اليوم فجوة تتّسع باطّراد بين الأغنياء والفقراء. وثمّة تحالف ملحوظ بين الكنيسة والدولة. وهناك رقابة بشكل أو بآخر وإقصاء للأصوات المستقلّة. كما أن الدور السياسي للدولة يقع على حدود الاستبداد.
هنالك من يعزو صمت روسيا الرسمية وتجاهلها لإرث تولستوي لنقص الأموال وعدم القدرة على تسويق تولستوي تجاريّا في سوق ثقافية تهيمن عليها الأفلام المترجمة والواردات الأجنبية.
لكنّ هناك سببا كامنا وأكثر عمقا، وهو افتقار البلاد للوسائل اللازمة لمعالجة القضايا الأخلاقية الملحّة التي تواجه روسيا اليوم، وهي نفس القضايا التي كانت موجودة في نهاية حياة تولستوي.
ضمير تولستوي لم يكن يسمح له بالسكوت عن الظلم والعنف والفقر والخروج على القانون. وهي مشاكل كان يراها حوله في الحقبة المتأخّرة من روسيا القيصرية. وكان باستمرار يناشد مواطنيه بأن لا يصمتوا على الاستبداد والظلم والفساد وأن يتّخذوا موقفا.
والواقع أن هناك الآن من يجادل بأن الأوضاع في روسيا اليوم ليست بأفضل حالا ممّا كانت عليه في بدايات القرن الماضي. كان الملايين من الروس، زمن ما قبل الثورة، ينظرون إلى تولستوي باعتباره منارة للحقيقة. واليوم يفضّل الناس عدم تذكّر عظمة وإنسانية كتّابهم في القرن التاسع عشر، ربّما بسبب شعورهم بعدم الارتياح إزاء تفريطهم وتقصيرهم ولامبالاتهم.
جاذبية تولستوي في قلوب وعقول مواطنيه توارت كثيرا بدليل فشل الدولة المشين في تكريم ذكرى واحد من أعظم مواطنيها. وعلى المستوى الرسمي، يبدو أن لا مكان لأفكار فوضويّ ونباتيّ مسالم كان يبشّر بالأخوّة بين بني الإنسان في بلد لا يمجّد اليوم سوى أفكار الذكورة والعزّة القومية والحكومة القويّة.
ولا يمكن إغفال نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية التي استعادت نشاطها في العقدين الأخيرين وتتمتّع الآن بعلاقة وثيقة مع الحكومة الروسية. هذه الكنيسة هي نفسها التي ما تزال تعتبر تولستوي زنديقا على الرغم من جهود سلالته وسخط الكثير من الروس.
في يوم وفاة تولستوي والأيّام التي تلته، أرسلت الدولة الجواسيس لتعقّب كلّ حركة وخطوة من أتباعه خوفا من أن يشجّع موته الملايين من مؤيّديه من الشباب والفلاحين والمثقّفين على القيام بتحرّك شعبي أو ثورة ما. أما ممثّلو الصحافة فقد حوّلوا موته إلى نوع من الإعلام المحموم.
واعتمادا على الروايات الصحفية والمراسلات الشخصية وتقارير الشرطة والتعاميم السرّية والبرقيات والرسائل والمذكّرات، فإن المشهد العام لأيّام تولستوي الأخيرة كان انعكاسا حيّا لامبراطورية هشّة تقف بقلق على حافّة الحرب والثورة. "مترجم".

يوميّات صوفيا تولستوي

بالنسبة إلى ليو تولستوي وعائلته الكبيرة، كانت كتابة اليوميّات شيئا عاديّا ومألوفا.
كان كلّ منهم يعبّر عن أفكاره ومشاعره من خلال الكتابة. الرجل العظيم نفسه، أي تولستوي، كان يحتفظ بمجلّدات من اليوميّات، واستمرّ يدوّن يوميّاته حتى يوم وفاته تقريبا.
طبيبه وسكرتيره وأطفاله وزوجته كانوا جميعا يحتفظون بيوميّات. ومن بين كلّ هؤلاء، كانت زوجته صوفيا هي الشخصية الأكثر أهميّة.
بدأت صوفيا تكتب يوميّاتها وهي في سنّ مبكّرة. ثم استمرّت تفعل ذلك، وبنشاط أكبر، بعد زواجها من تولستوي. ولم تتوقّف أبدا عن الكتابة حتى وفاتها في العام 1919، عندما هدّدت الثورة البلشفية باجتياح ضيعة باسنايا بوليانا حيث عاشت هي وزوجها الروائي لأكثر من نصف قرن.
في إحدى تدويناتها الأخيرة تكتب صوفيا تولستوي قائلة: اجتمعنا كي نناقش أفضل الطرق للدفاع عن باسنايا بوليانا والحيلولة دون تعرّضها للنهب. لا شيء تقرّر بعد. العربات والثيران والناس يأخذون طريقهم الآن باتجاه تُولا".
كان التاريخ يهدّد بتدمير كل شيء كانت تحبّه.
تولستوي كان ينحدر من عائلة من النبلاء. وكان يملك منزلا كبيرا بالإضافة إلى كونه كاتبا مرموقا. وقد عُرف بأسفاره الكثيرة وحبّه للقمار وارتياده لبيوت الهوى عندما كان ما يزال شابّا.
غير انه كان يتوق لأن يجرّب حياة الهدوء والاستقرار مع فتاة بريئة في سنّ التاسعة عشرة. كانت تلك الفتاة هي التي حملت له في النهاية بثلاثة عشر طفلا. وهي التي ساعدته في عمله. فقد تولّت شخصيّا نسخ "الحرب والسلام" و"آنّا كارينينا" عدّة مرّات. كما كانت تضطلع بمهمّة الإشراف على ممتلكاتهم الكثيرة.
كانت تلك المهامّ صعبة بالنسبة لها. لكنها أثبتت أنها أهل لها. وقد كان زوجها يقدّر ذكاءها. ولم تكن تحبّه فحسب، بل كانت شهرته أيضا مبعث سرورها واعتزازها.
كانت صوفيا تولستوي تشعر بالسعادة والرضا في العيش إلى جوار رجل كانت شهرته تزداد كلّما كبر في السنّ. غير أن المشكلة التي واجهتها كانت تتمثّل في أن تولستوي بدّل طباعه فجأة وهو في منتصف العمر. فقد أصبح شخصا متديّنا وأدار ظهره للكتابة. وشيئا فشيئا، تحوّل إلى ما يشبه القدّيس. وأصبح يجتذب الأتباع والمعجبين من كافّة أنحاء العالم، بمن فيهم غاندي. ثم لم يلبث تولستوي أن صاغ نسخته الخاصّة من المسيحية وأسقط منها كلّ ما له علاقة بالمعجزات الدينية والقصص الغيبية.
والأسوأ من ذلك، من وجهة نظر صوفيا، انه هدّد بمنح كلّ ما يملك، بما في ذلك حقوق نشر وبيع كتبه، إلى الشعب الروسي.
وفي ما يشبه الدراما السيكولوجية، بدأت صوفيا تتعارك مع أتباع تولستوي ومريديه في محاولة منها لاسترداد روحه. وقد أصبحت يوميّاتها في العقد الأخير من حياة تولستوي عصبية كثيرا.
تقول في إحداها: ذهبت إلى غرفة زوجي هذا المساء بينما كان يستعدّ للنوم. كنت أدرك أنني لن اسمع منه أيّ كلمة طيّبة هذه الأيّام. وما توقّعته حدث بالفعل. فزوجي العاطفي مات. وبما انه لم يكن في يوم من الأيّام صديقا لي، فكيف انتظر منه أن يكون صديقا لي الآن! هذه الحياة لا تليق بي. لا يوجد مكان يمكنني أن استثمر فيه طاقتي وعاطفتي. لا اتصال مع الناس، لا فنّ، لا شيء، باستثناء الشعور بالوحدة طوال اليوم".
كانت صوفيا ترى نفسها محاطة بضجيج مجموعة من المجانين. الأحاديث التي كانت تسمعها من حولها كانت تدور حول التعفّف عن الجنس وحول مزايا الغذاء النباتي وأهمّية المقاومة السياسية.
وكانت تتساءل ما إذا كان العالم خارج بيتها بحاجة فعلا إلى متابعة أخبار حياتها الخاصّة. في إحدى تدويناتها التي سجّلتها في الرابع من أكتوبر عام 1878 تكتب صوفيا كلاما يشي بحنينها إلى عالم باتت تفتقده بعمق.
كان وقت زوجها مخصّصا بالكامل لأتباعه وتلاميذه. وكان البيت يزدحم بهم دائما. وكان هناك آخرون يلحّون في طلب مقابلات أو اخذ صور معه كي يقولوا للعالم إن تولستوي على خلاف مع زوجته.
الحياة التي كانت تعيشها عائلة تولستوي كانت طيّبة إجمالا. كانت هناك حفلات عشاء وشاي ورحلات صيد وحفلات موسيقية وزيارات إلى المسارح ومشاوير طويلة في الريف. لكن تولستوي أصبح يرى في كلّ ذلك نوعا من الرفاهية التي تثير ضيقه واشمئزازه. لذا قرّر أن يرفض هذه الحياة وفضّل أن يحيط نفسه بأناس يفكّرون كما يفكّر هو.
لكن صوفيا لم تحتمل أصدقاء زوجها. "لا يوجد بين هؤلاء الناس شخص طبيعي واحد. وأكثر النساء مصابات بالهستيريا".
غير أن تولستوي كان يتعامل معها ببرود غالبا، كما في القصّة التي دوّنتها في الخامس من فبراير عام 1895م. كانت قد ذهبت هي وزوجها لصيد الطيور البرّية. وكانت معتادة على تدليله بمناداته باسمه الحيمم "ليوفوتشكا".
"كان ليوفوتشكا يقف خلف إحدى الأشجار. وسألته لماذا لم يعد يكتب كما في السابق. أطرق إلى الأرض للحظات ثم نظر حوله بطريقة ساخرة نوعا ما وقال: يا عزيزتي، أظنّ أن لا أحد بإمكانه أن يسمعنا سوى الأشجار. والآن سأخبرك. قبل أن اكتب شيئا جديدا، لا بدّ وأن أحترق بجذوة الحبّ. وهذا انتهى الآن. قلت له: يا للعار! بإمكانك أن تقع في حبّي إن أحببت وبعدها يمكن أن تكتب شيئا. ردّ قائلا: لا، لقد فات الأوان الآن".
كانت صوفيا تولستوي تراقب زوجها وهو يبتعد عنها تاركا إيّاها لوحدها. وفي احد الأيّام، انسلّ من البيت فجرا بمعيّة عدد من أتباعه. وكاد أن يموت في إحدى محطّات القطار من شدّة البرد. وعندما اقتفت صوفيا أثره كي تطمئنّ عليه رفض أن يراها. حدث هذا قبل شهرين فقط من وفاته.
التطوّر الدراماتيكي الذي طرأ على حياة تولستوي يرقى لأن يكون قصّة منفصلة بذاتها. غير أن صوفيا تجاهلت ذلك في يوميّاتها وإلى حدّ كبير.
كان ذلك التحوّل مذهلا لدرجة أنها لم تستطع أن تسجّل تفاصيله في كتاباتها. لكن مئات الصفحات التي كتبتها توفّر ما يمكن اعتباره شهادة لامرأة غير عاديّة عاشت بالقرب من واحد من أعظم الكتّاب في جميع العصور. ويبدو أنها كانت مدركة تماما للثمن الباهظ الذي كان عليها أن تدفعه مقابل هذه المكانة المتميّزة.
في العام 1910، كتب تولستوي إلى صوفيا رسالة وداع قال فيها انه لم يعد قادرا على تحمّل العيش في ظروف مرفّهة. لكن هذه الكلمات المشهورة لا تحجب حقيقة أن هذه المرأة الرائعة كانت شديدة الإخلاص لزوجها كما كانت تتمتّع بقدر كبير من الذكاء والموهبة واللباقة.
كانت تفهم تولستوي بعمق ككاتب وكإنسان، وكانت تدعمه كثيرا.
تولستوي تحدّث لأصدقائه ذات مرّة كيف أن الزواج غيّره. "لم أكن أكثر شعورا بقوّتي الفكرية والمعنوية وبحرّيتي وإقبالي على العمل مثلما أنا عليه الآن". كانت صوفيا تحبّ كتاباته، وقد ألهمته أفضل انجازاته. كما أن دعمها العاطفي له كان مهمّا للغاية، وهو الكاتب الذي كان يصارع نوبات الاكتئاب باستمرار.
صوفيا كانت ملهمة تولستوي ومساعده الشخصي. والكثير ممّا كانت تفعله وتؤمن به وجد طريقه إلى رواياته. وعندما استخدمها كنموذج في "الحرب والسلام" وفي "آنّا كارينينا" فإنه إنمّا كان يُسقط من خلالها مفهومه المثالي عن السعادة الزوجية.
كانت صوفيا دائما في قلب إبداع تولستوي. ومن المستحيل تصوّر حياته وأعماله الأدبية بدونها. "مترجم"

تولستوي بريشة ريبين

كم هو جميل ومعبّر هذا البورتريه الذي رسمه الفنان إيليا ريبين للروائي الروسي الكبير ليو تولستوي.
من المعروف أن ريبين رسم لـ تولستوي العديد من البورتريهات، لكن هذا يعتبر أشهرها. وفيه يظهر الأديب الروسي في هيئة قريبة من هيئة الكهنة أو رجال الدين.
النظرات هنا متأمّلة والملامح تشي بالجلال والهيبة والملابس السوداء تخلع على الشخصية إهابا من الوقار والقداسة.
وقد وجدت البورتريه في موقع الويكيبيديا، بعد أن كنت طالعت بعض صفحات من كتاب "آخر أيّام تولستوي" الذي ألفه فلاديمير تشيرتكوف سكرتير تولستوي الشخصي وأحد تلاميذه المقرّبين.
الغريب أن هذا البورتريه لم يعجب النقاد في ذلك الزمان، فقد استنكروا على الرسّام تصويره أكبر رمز ثقافي روسي بملامح شبيهة "بملامح أبناء الريف والفلاحين البسطاء"، كما قالوا.
تولستوي لم يكن مجرّد روائي كبير، بل كان أيضا فيلسوفا ومفكّرا حرّا ومصلحا اجتماعيا وداعية للسلام.
ولا بدّ وأنّ هذه السّمات الشخصية المتفرّدة كانت حاضرة في ذهن ريبين وهو يرسم هذا البورتريه الجميل الذي نفذ من خلاله إلى روح الكاتب والى مشاعره وانفعالاته الداخلية.
بالمناسبة، لا يمكن تبيّن جمال ألوان هذا البورتريه وروعة خطوطه ورهافة تفاصيله إلا برؤية اللوحة الكبيرة الموجودة في موقع ويكيبيديا على هذا الرابط ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التعليق