رسالة الترحيب



ومــا كـنـت مـمـن يـدخـل العـشـق قلـبـه -
و لـكــن مـــن يـبـصـر جـفـونـك يـعـشــق
.




بحث هذه المدونة الإلكترونية

14‏/10‏/2012

عمر أبو ريشة



.

مقدمة


كنا مراهقين صغاراً أو ربما كباراً على وشك ولوج المرحلة الجامعية، حين التقينا ذلك «النسر» العجوز، أو ذلك الجبل الشامخ الذي ابيضَّت ناصيته، نعم التقينا «عمر أبا ريشة» في إحدى شوارع دمشق في حي التجارة حيث كان يسكن. كانت قد تقدمت عليه السنون، والهرم بات واضحاً عليه. كان لقاؤنا به أشبه بطقس ترحيب وإجلال لشخصه الكريم، وعطائه الكريم على مدار الأجيال، كنا كعصافير صغيرة تحلَّقت حول هذا «النسر» العجوز، نبتغي منه حكمة أو تعليماً نتوق إليه!!.


كنا آنذاك مراهقين، نركض بين وهاد الرغبة المستيقظة فينا، وبين قمم البحث عن الصوفية. ولعلنا آنذاك أو البعض منا انتابه ما يُسَمَّى بعمى الألوان، أي كنا نرى ونبحث عن الصوفية في كل شيء، وُخيِّل إلينا أن الصوفية هي كل شيء، وبتنا لا نرى سواها، وهكذا انتابنا عمى الصوفية. ربما كانت الحياة أوسع بكثير مما نتخيَّل، أو مما نستطيع أن نحصرها به، سواء في مفهوم أو تجربة!!.



هكذا إذن، كنا نشتمُّ عبق الصوفية في شعر أبي ريشة، وبالتالي غفلنا عن ذلك اليمّ الشاسع الذي تهدر أمواجه بدرر على شواطئ الإبداع، وغفلنا أيضاً عن تلك الينابيع الرقراقة التي تنساب من ذرى الجبال محمَّلة بصور شفافة، وموسيقى عذبة، وخيال خصيب، وتجربة إنسانية فريدة!!.



نعم، لا زلت أذكر لا بل حفظتُ في ذاكرتي، ذلك اللقاء التلفزيوني مع شاعرنا عمر أبي ريشة، في ذلك الوقت، حين كنا مراهقين. كان حديثاً جميلاً، ورافقني صوته وكلماته سنين طويلة لا تبرح ذهني، كان كلامه تأمُّلاً حول البسملة أي معنى «بسم الله الرحمن الرحيم»، حيث قال: «الرحمن هو اتساع الصفة أي الرحمة وشمولها كل شيء، أما الرحيم فهو ثبوت الصفة أي الرحمة في الله إلى الأبد». وفيما بعد، وجدتُ أن البسملة المسيحية والبسملة الإسلامية، إن صحَّ التعبير في ذكر بسملتين لأن البسملة واحدة، تصبّان في نفس المعنى والحقيقة التي أشار إليها شاعرنا، وأنهما في الحقيقة واحد!!.



والآن، وقد غادرنا عمر أبو ريشة، فقد ترك لنا في رومانسيته، وشفافيته، ألحاناً عذبة، وصوراً غزيرة، ربما كانت وستظل بالنسبة لباحثين كثيرين، بمثابة «جنّة عدن» حيث كان الإنسان الأول تحيط به الأشجار من كل صوب، هذه الأشجار التي اعتبرها بعض النسّاك، «أفكار الله»!!.



سيرة حياته


ولادته


يرى بعض الباحثين أن الشاعر نفسه أكّد أنه وُلِدَ في العام 1911 في عكا بفلسطين. في حين يرى آخرون أنه وُلِدَ سنة 1910 في منبج، وهي المدينة التي أنجبت البحتري، وأبي فراس الحمداني.


نسبه


«هو عمر بن شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة. وقد كان شافع من أبناء الأمراء في عشيرة الموالي، وهم أصحاب مجد مؤثل وبأس شديد، انحدروا من آل حيّار بن مهنا بن عيسى من سلالة فضل بن أبي ربيعة من طيء، ونبت فيهم الشعر من قديم. وكان لهذه العشيرة قوة في عهد العثمانيين إذ حكمت أطراف المعرّة إلى حماة، وأرسل العثمانيون شافعاً إلى الآستانه لتلقي العلوم فيها، ولما حصَّل شيئاً منها، عاد إلى بلده وعمل موظفاً في الإدارة، ثم ترقّى إلى قائمقام في منبج».


«كما ينقل بعض الصحفيين على لسان عمر أن أجداده، أمراء الموالي ورؤساء قبائل الطوفان والعابد والمهنا، قد قدموا من الحجاز، فأسر السلطان رشاد أحدهم، الذي هو أحمد كبير قبيلة الموالي، لتمرده على الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربية، حيث توجد قلعة أبو ريشة. نقل العثمانيون رهينتهم أحمد إلى مدينة استانبول، وعلى ضفاف البوسفور اكتسب جد الشاعر احترام السلطان وتقديره، فتحول الغضب إلى رضا، وانقلبت النقمة مودة، جعلت الحاكم يأمر بأن يوضع على عمامة أسيره ريشة محلاّة بكريم الجوهر، فأصبحوا يُدعَون بأبي ريشة».



والده


والده كما ذكرنا هو شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة، وُلِدَ في القرعون على ما يروي عمر. وعلى الرغم أنه أصبح قائمقام في منبج والخليل، فإنه أمضى سنين طويلة منفياً أو دائم الترحال، وبعد عودته من المنفى أقام في حلب، حيث عمل في الزراعة، ثم هجر الزراعة، وقبل منصب قائمقام طرابلس. وكان شافع شاعراً مجيداً، فقد كتب عدة قصائد في رثاء شوقي وحافظ وعمر المختار.



===والدته===

والدته هي خيرة الله بنت ابراهيم علي نور الدين اليشرطي، وهي فتاة فلسطينية من (عكا)، أما أبوها فقد كان شيخ الطريقة الشاذلية <<«طريقة صوفية، أسسها أبو الحسن علي الشاذلي بتونس، وعنه انتشرت في شمال إفريقيا، وأذاعها بمصر مريده أبو العباس المرسي المتوفي بالإسكندرية سنة 1287م. تقوم في أساسها – كالطرق الصوفية الأخرى – على أذكار وأوراد». عن كتاب «عمر أبو ريشة والفنون الجميلة»، تأليف: د.أحمد زياد محبك.>>|[1]|في فلسطين. وعنها يقول عمر: «كانت طيَّب الله مثواها مكتبة ثمينة على رجلين، عنها حفظت الأشعار، والقصائد، والمطوّلات». كما يذكرها عمر بالتقدير والثناء، فيقول: «والدتي متصوفة منذ صغرها، أحاطتنا منذ صغرنا بعناية ذكية، وأشاعت حولنا جواً روحانياً، جعلنا لا نقيم وزناً للفوارق المذهبية، تربيتها أمدتني بقوة استطعت بها ولوج دروب الحب. فالضعف يجعل من يبتلي به أضعف من أن يحب».



ويتحدث عن جانب مهم منها، هو جانب الصوفية، فيقول: «عالم من الأنوثة زاخر بالحب مضيء بالرقة والحنان. غلبت عليها النزعة الصوفية، تشعر بالألم فتغني بصوتها الرخيم لتبدد الألم. أحبت من الشعراء المتصوفين علي وفا وبحر الصفا وعبد القادر الحمصي وحسن الحكيم». ويضيف: «لقد اتسع حديثها دائماً للحب المحدود والحب المطلق للذات الكبرى، وعلاقة الإنسان بها».



ومما هو جدير بالذكر أن «أم عمر كانت تروي الشعر وبخاصة الشعر الصوفي. وقد عرف عمر التصوف منها، وكذلك أخذ عنها نظرته إلى الدين والحياة والحب، وكذلك مفهومه للتصوف، وكلفه بالجمال، وصداقته للموت».



إخوته وأخواته


«اشتهر من إخوته وأخواته ظافر وزينب. أما ظافر فله ديوان شعر بعنوان "من نافذة الحب" طُبِعَ عام 1981، وأيضاً له ديوان ثانٍ "لحن المساء"، وأما زينب فكانت شاعرة جيدة، تهافتت كبريات الصحف على نشر قصائدها».


تعليمه


«يذكر عمر أن والده ألحقه بعد عودته من المنفى بمدرسة النموذج الابتدائية في حلب. كما يذكر سامي الدهان أن عمر التحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1924 لكي يتم دراسته الثانوية، وكان عمر التلميذ يُعْرَفُ بالخطيب والشاعر والمؤلف المسرحي قبل أن يبلغ الثامنة عشرة من عمره. كما أدرك أبو ريشة الشعراء الثلاثة الذين أنجبتهم الجامعة الأميركية، وهم "إبراهيم طوقان"، و"حافظ جميل"، و"وجيه البارودي" عن طريق الندوات التي كان يجتمع فيها إليهم أو عن طريق إدراكه لآثارهم أو بقايا شعرهم الغزلي المشترك». سافر إلى إنكلترا سنة 1929 ليدرس كيمياء الأصباغ والنسيج في مانشستر، لكنه على ما يبدو انصرف إلى الشعر يقرأ عيون الشعر الإنكليزي، وعلى الخصوص شعر شكسبير، شلي، كيتس، ميلتون، تنيسون، براونينغ، بو، غراي. كما أنه درس بودلير بوصفه شاعره المفضل، بالإضافة إلى بو، وسنأتي على ذكرهم أثناء دراسة الرومانسية في شعر أبو ريشة.


تجربته العاطفية في إنكلترا


نشر عمر في هذه الفترة من حياته قصيدة طويلة أرسلها الشاعر من لندن، عنوانها «خاتمة حب»، وهي قصيدة لها علاقة بقصة حب حقيقية عاشها الشاعر، وكانت تجربةً، خلاصتُها، تعلّقه بفتاة جميلة هي «نورما ابنة صاحب أكبر معامل النسيج في إنكلترا يومها، شقراء بعينين زرقاوين، أُصِيبَ الشاعر بمرض الأبو كعاب (وكان مرضاً معدياً وخطراً في ذلك الوقت) فلزِمَ فراشه، وقامت الفتاة الحسناء المُحِبَّة بخدمته لبُعْدِ أهله وأقاربه عنه آنذاك، وعندما شُفِيَ الشاعر، سافر إلى حلب، وعاد إلى حبيبته، فوجدها مصابة بمرض الأبو كعاب الذي لم تنجُ منه كما نجا هو رغم عناية أهلها الشديدة بها فماتت». "وكان شاعرنا قد منّى نفسه بالزواج بها، لكنه ما أن نال موافقة أهله على ذلك، حتى فوجئ بموتها، فارتد على نفسه كاسف البال حزيناً، وعبَّر كما ذكرنا عن قصته هذه بقصيدة «خاتمة الحب»، ومن أبياتها التي يذكرها د.سامي أبو شاهين:

«شمسُ حُزني قد استوت وعجيبٌ   أن أراني أعيش في غير ظِلِّ

أبصرُ الدهرَ ناشراً سِفرَ عمري             ولسـانُ الآلام يقرا ويملي


طعنةٌ إثـر طعنةٍ إثـر أخرى              نثرت هذه الحُشـاشة حولي


فتـأمَّلتُ فـي الحيـاةِ وفيما          كنتُ أبني على الخيالِ وأعلي


فإذا مـوردُ النعيـم سـرابٌ               وإذا حـائط المنى فوق رملِ»



«ولم يصدق عمر هول الصدمة. فوقف يتغزل بجمالها يحدثها وتحدثه وكأنها مازالت حية ورآها ازدادت حسناً وجمالاً بعد الموت. فالجفن مازال كالأمس، وإنما يكتنفه النعاس أو الحياء أو نشوة الدلال»:


«طوقينـي بسـاعديكِ فلا خـوْ         فَ علينا مـن أعين العذَّالِ

ما أرى الموت مطفئاً شعلةَ الحُسْـ نِ ولا بالمزيل سحر الجمالِ


جفنـكِ اليـوم مثل جفنكِ بالأمْـ     سِ كسـاهُ الفتور تيم المثالِ


فـكأن الإغماضَ فيـه نـعاسٌ         أو حياءٌ أو نشـوةٌ من دلالِ»



لاشك أن هذه التجربة قد أدمت قلبه، وجعلته ينزف، ومما لاشك فيه أيضاً أنها أصَّلَت النزعة الرومانسية في شعره كما سوف نرى. كما يذكر الباحثون أن الشاعر أتقن اللغة الإنكليزية وأنه نظم بهذه اللغة مجموعة شعرية بعنوان «الجوّاب التائه» وقيل أنها طُبِعَت ثلاث مرات في إنكلترا.



عودته إلى حلب


«تغلب الشاعر في عمر على الصناعي فيه، فانقلب إلى دراسة الأدب الإنكليزي، ولا يُعْرَفُ كم من ذلك الأدب استوعبه عمر في إقامته القصيرة في بريطانيا التي غادرها دون إكمال دراسته، وعاد من بريطانيا في ربيع عام 1932 لقضاء العطلة الصيفية في حلب حيث مكث هناك منصرفاً إلى الشعر وحده دون أن تنازعه (الكيمياء الصباغية) أو سواها من تعدد اختصاصات حاول دراستها هناك». وتسلَّم إدارة «دار الكتب الوطنية» بحلب التي أثرى مقتنياتها وشجَّعَ فئات المثقفين في دعمها.


قصة انضمامه للسلك الدبلوماسي


«كان الزعيم حسني الزعيم، والأستاذان الصقّال والكوراني – والثلاثة من حلب – على إعجاب كبير بالشاعر عمر أبي ريشة، الذي كان يومئذٍ مديراً لدار الكتب الوطنية في الشهباء. وكانت الحكومة في حاجة إلى سفراء ووزراء مفوَّضين، فاقترح الأستاذ فتح الله الصقال أن يعيِّن الأستاذ أبو ريشة سفيراً لنا في البرازيل، فاعترض حسن جبارة، وقال: إن تعيينه مخالف للقانون، لأنه لا يحمل شهادة جامعية تخوّله هذا الحق، وتتيح له تسلم هذه السفارة. وعندئذ تصدّى له الأستاذ الصقال قائلاً: ولكن عمر أكبر من الشهادات».


زواجه


«تزوج عمر في التاسع من أيلول سنة 1939 من منيرة بنت محمد مراد، وكانت قد عاشت مع أسرتها في الأرجنتين، وكان والدها من كبار رجال الأعمال، ثم عادت إلى وطنها الأم لبنان مع والدتها وإخوتها بعد وفاة والدها، واستقرت في بيروت.


رافقت عمر إلى البلاد التي مثّل فيها سورية سفيراً زهاء ربع قرن. وكانت مثال السيدة النابهة في المجتمعات والأندية الثقافية. وأنجبت له ثلاثة أولاد هم رفيف وشافع وريف».



كما يذكر د.سامي أبو شاهين أن عمر تزوج في العام 1980 من سعاد مكربل، التي كانت له مثال السيدة النابهة والجميلة الملهِمَة، وأن هذا الزواج كان سراً.



ثقافته


يحدثنا عمر عن تأثره بوالديه في طفولته فيما كانا يتلوانه من الشعر الصوفي. وهو يقول في ذلك: «في البيئة المتصوفة، حيث نشأت، أُتيحَ لي الإصغاء، وأنا بعد طفل إلى أناشيد لم أكن أسمع مثلها في غير تلك البيئة، فأرددها برفقة أهلي، وأصدقاء أهلي، دون أن أدرك أبعاد معانيها».


كان الشاعر قد بدأ بعيون الشعر العربي ينهل منها ويتمثلها، إلا أن مصدراً جديداً أغنى ثقافته أثناء إقامته في بريطانيا، وفي هذا نسمعه يصرِّح: «خلال إقامتي في بريطانيا، أُتِيحَ لي مجال التعمق في دراسة الشعر الإنكليزي بصورة خاصة والشعر العالمي بصورة عامة».



والمصدر الأخير الذي يشير إليه د.جميل علوش، فهو تجربته الدبلوماسية التي جعلته على احتكاك بعدد من الأمم والشعوب، مما هيأ له مناخاً ليطّلع على لغات جديدة، ويذكر البعض أنه كان يتقن ست لغات أو أكثر، وأنه كان يرفض قراءة الشعر مترجَماً، فيصرّ على قراءته بلغته، وبالتالي مكَّنَته هذه اللغات الكثيرة التي أتقنها أن يطَّلِع على إنتاج أدبي وافر ومتنوع.



وعن تجربته في احتكاكه بالأمم والشعوب وأثرها في ثقافة الشاعر من جهة وشعره من جهة أخرى، ما يذكره أ.عبد الإله الملاح «كيف كانت الحكومات البريطانية في الهند تقفل معابد كاجوراو في وجه العامة، بدعوى فحش منحوتاتها وانحطاط تماثيلها، إلى أن استطاع سفيرنا أبو ريشة في الهند إقناع السيد جواهر لال نهرو، رئيس مجلس الوزراء هناك، بفتحها أمام جماهير الفنانين والمتفرجين، وكيف تمت بعد ذلك تسمية إحدى القاعات فيها باسم عمر أبي ريشة اعترافاً بفضله» وسوف نتعرض بتفصيل لقصيدة عمر أبو ريشة «معبد كاجوراو».



تسلسل وظائفه


1) عُيِّنَ عمر بعد عودته من إنكلترا مديراً لدار الكتب الوطنية في حلب، وبقي في هذه الوظيفة حتى سنة 1949، حين التحق بالسلك الدبلوماسي.

2) عُيِّنَ سنة 1949 ممثلاً لسورية في البرازيل.


3) عُيِّنَ سنة 1950 سفيراً لسورية في البرازيل (وزيراً مفوضاً في البرازيل).


4) عُيِّنَ سنة 1952 سفيراً لسورية في الأرجنتين.


5) عُيِّنَ سنة 1954 سفيراً لسورية في الهند.


6) عُيِّنَ سنة 1959 سفيراً للجمهورية العربية المتحدة في النمسا.


7) عُيِّنَ سنة 1961 سفيراً لسورية في الولايات المتحدة الأميركية.


8) عُيِّنَ سنة 1964 سفيراً لسورية في الهند.


9) أحيل سنة 1971 على التقاعد، فعاد إلى لبنان ليجعل بيروت مقراً له، ولكن تفاقم الأحداث فيها حال دون ذلك، فسكن فترة في دمشق، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية.



مناصبه الفخرية وأوسمته


1) عُيِّنَ عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية في دمشق سنة 1948.

2) عُيِّنَ عضواً في الأكاديمية البرازيلية للآداب.


3) منحته الأرجنتين الوشاح الأكبر.


4) عُيِّنَ عضواً للمجمع الهندي للثقافة العالمية، شغل فيه كرسي الأدب.


5) أعطته النمسا وشاح الثقافة.


6) منحته الجامعة العالمية بالتعاون مع الطاولة المستديرة لجامعة الآداب في العالم في توكسون أريزونا دكتوراه الثقافة العالمية في الآداب عام 1981.


7) وسام الاستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى من الرئيس اللبناني الياس الهراوي.



وفاته


في يوم السبت 14 تموز 1990 رحل الشاعر الكبير عمر أبو ريشة إلى الدار الأبدية، وكان قد أُصِيبَ بجلطة دماغية، لزم الفراش على أثرها لمدة سبعة أشهر في مستشفى الملك فيصل في الرياض.


بعد الوفاة، نُقِلَ جثمانه بطائرة خاصة من الرياض إلى حلب حيث تم دفنه. وأُقِيمَت له مآتم التأبين في حلب ودمشق وبعقلين في لبنان «وكان عمر شغل الناس في حياته ومماته. إنه شاعر ألمعي بارز، قيمته محفوظة بين شعراء العصر الكبار، رحمه الله، وأجزل مثوبته».



أعماله


الشعر


1) ديوان «شعر»، حلب، 1936.

2) ديوان «من عمر أبو ريشة»، بيروت، 1947.


3) ديوان «مختارات»، بيروت، 1959.


4) مجموعة شعرية «غنيت في مأتمي»، دمشق، 1971.


5) ديوان «عمر أبو ريشة» (المجلد الأول)، دار العودة، 1971.


6) مجموعة شعرية «أمرك يا رب»، جدة، السعودية، 1980.


7) مجموعة شعرية «من وحي المرأة»، دمشق، 1984.


8) ديوان بالإنكليزية «التطواف Roving along» دار الكشاف، 1959.



المسرحيات الشعرية


1) مسرحية «ذي قار»، حلب، 1931.

2) مسرحيات «محكمة الشعراء، سميراميس، تاج محل، الطوفان، أوبريت عذاب».



ملاحظة: مسرحيتا «الطوفان» و«محكمة الشعراء» لم تُنشَرَا بالكامل، بل نُشِرَ بعض فصولها في مجلة الحديث. ومن المسرحيات التي كتبها ولم ينشُر منها سوى فصل واحد في مجلة الحديث مسرحية «سميراميس» كما كتب مسرحية شعرية أسماها «أوبريت عذاب»، كما تُذكَر مسرحية سابعة للشاعر عنوانها «الحسين بن علي».



الترجمة


«إيدي يوريدس»: مسرحية للمؤلف البرازيلي بدرو بلوك عربها أبو ريشة والياس خليل زخريا، ونُشِرَت في بيروت عن دار الحضارة، بدون تاريخ.


أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب



الكلاسيكية الجديدة



تُعتبَر «الكلاسية الجديدة» في الأدب العربي المعاصر رجوعاً إلى مناهل الأدب العربي القديم وإحيائه وتجديده ومراعاة أصوله.


وعلى هذا، فقد أجمع النقاد على أن عمر أبا ريشة هو أحد رواد الكلاسيكية الجديدة الأساسيين في سورية، وأنه ممثل أصيل لها.



وفي هذا السياق يشير أ.جلال فاروق الشريف إلى أن الشعر الجديد إذا كان يجب أن يأخذ من الكلاسيكية الشكل إلا أن المضمون يجب أن يكون معاصراً تماماً في الفكرة الشعرية التي لا يحويها إلا الخيال المجنح.



«إنما جدارة إسهام أبو ريشة في الكلاسيكية الجديدة إنما تتجلى في تطويره للصورة الشعرية، وإذا كان الفن هو التعبير بالصورة، فإن جيل الرواد في التزامه بتقليد القدامى لم يتجل في التقيد بالعمود الشعري الخليلي تقيداً تاماً وحسب، وإنما في استعارة الصور الشعرية القديمة. فلقد استعادوا "السيف" و"الليث" و"الصحراء" و"القافلة" وجميع أدوات الشعر العربي القديم في الصور التي حاولوا فيها التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم. وكان على أبو ريشة كي يطور الكلاسيكية الجديدة أن يعبِّر بصورة جديدة أكثر معاصرة. ولقد اعترف له د.شوقي ضيف بهذا التجديد وأقره عليه على الرغم من اعتراضه على التجديد بعامة وبخاصة التأثر بالشعر العالمي المعاصر وبما يسميه "الاستيراد من الغرب"».



الرومانسية


أما أ.محمود منقذ الهاشمي فيشير إلى أن الشاعر عمر أبو ريشة بتناقضه الكامل مع الكلاسيكية التي تضم قيم العقل والنظام والواجب في المقدمة، وبإنكاره للدور المعرفي الفكري للشعر، وبتمسكه بأن الشعر خيال وعاطفة حدسية لا تستند إلى مقدمات فكرية معقولة، كان يصطدم على الدوام بالواقع فيشعر بالخيبة والوحشة والمرارة مما كان يؤجج فيه النزعة الرومانسية. ويقول: «ما أكثر قصائده التي عالجت هذه التجارب، ولا سبيل لإنكار أنه قدم فيها أجمل إبداعاته. وفيها تكمن أصالته الشعرية، فلا يشعر المرء أنه يستعير تجارب الآخرين، بل يتملكه الاقتناع بأنها صادرة عن معاناته وخياله الشخصيين».


«وبالتالي، فإن موهبته الشعرية تبرز أكثر ما تبرز في تلك القصائد الذاتية التي تنمّ عن مخيلة شعرية متميزة، وتجربة نفسية حطمته، فجعل من الحطام لوحات تفنن في تصويرها تصويراً يعتمد على الإيحاء والأجواء الغامضة البسيطة التركيب».



الذاتية والموضوعية


أما الذاتية والموضوعية في الشعر فيوضحهما د.محي الدين صبحي حيث أن تقسيم الشعر إلى ذاتي وموضوعي يسوّغه كون الأعراف الشعرية ذاتها جعلت من الشعر الموضوعي تناولاً شبه محايد لظواهر في العالم الخارجي، كالحوادث التاريخية ووصف الطبيعة أو الأطلال. في حين أن الشعر الذاتي يصف انفعالات الشاعر المباشرة فيما يتعلق «بأناه» الشعرية، علماً بأن مناطق الاشتباك والاختلاط بين الذاتي والموضوعي تكاد تكون أكثر من مواطن الانفصال والافتراق وخاصة عند الشعراء الحداثويين، أما الشعراء الكلاسيكيون فالفصل عندهم أغلب وأوضح!!.



الصورة البيانية


إذن، بعد أن توصلنا إلى مفهوم الذاتية والموضوعية، وأن الذاتية تنمّ عن مخيلة شعرية متميزة، فإن هذه الصفة الملازمة لشعر أبي ريشة يعبر عنها د.أحمد زياد محبك فيقول: « قصيدة "نسر" لأبي ريشة، كتبها وهو دون الثلاثين لتضيف إلى الوجدان العربي رصيداً جديداً قوامه صورة مرسومة بالكلمةۛ».


«لقد قُرِنَ شاعرنا بالرسام الذي يمسك بريشة ليخطّ صوراً مؤثِّرَة، ولاسيما أن التصوير أساس فنه، وهو تصوير يد صنّاع ماهر، حيث نجد الظل إلى الظل فلا نحس نشازاً بل نحس استواءاً وائتلافاً».



«لقد توقف أكثر من باحث أو ناقد – ممن عنوا بشاعرية عمر أبي ريشة– عند مهارته في رسم الصورة الشعرية، وليس أدل على هذا من مجاميعه الشعرية التي زخرت بصور ذات ألوان وظلال لا حصر لها، وهي جميعها تؤكد قدرة هذا الشاعر على رسم الصورة بالكلمة الحية الدالة. وممن انتبهوا إلى هذه الظاهرة البارزة في شعره د. شوقي ضيف الذي عدّه ممن نجحوا في رسم صورة شعرية متميزة.



«فكأنما له من اسمه حظ، فهو يرسم بريشته لوحات كبيرة تلمع فيها خطوط الاستعارات وألوانها وظلالها. ولعل ذلك ما يجعل ديوانه متعة حقيقية، فالشعر عنده ليس صوراً فارغة وإنما هي صور مليئة بالأفراح والأحزان».



يكاد شعره يكون متحفاً للصور، والشاعر لا يكتفي بأية صورة كانت يضمها إلى مجاميع صوره الشعرية بل إنه عميق النظر إلى الصورة «وكأني بالشاعر الكبير يعيش مع الأشباح ويقضي ساعات خياله مع الصور فيكسوها بالألوان والظلال ويجسِّم بها مشاهده الواسعة كأنها ألواح فنان رسام مصوِّر صنّاع، لا شاعر يعيش مع اللفظة ليربطها بأختها ويصنع منها شطراً يقفيه بقافية يرود في المعاجم طويلاً ليقع عليها. فلم يكن عمر يسعى وراء الألفاظ ولكنه يسعى وراء الصور».



عند هذا الحد، نستطيع أن ندلف إلى مفهوم الصورة البيانية الذي تطلعنا عليه د. وجدان عبد الإله الصائغ: «تُحدَّد الصورة البيانية على أنها "التعبير عن المعنى المقصود بطريق التشبيه والمجاز والكناية أو تجسيد المعاني" ويمكن تقسيمها إلى الصورة التشبيهية والصورة الاستعارية والصورة الكنائية».



وللإشارة إلى مظهر للصورة البيانية في شعر أبي ريشة نلجأ إلى دراسة جميلة للأستاذ محمود منقذ الهاشمي نتبين من خلالها ملامح الصورة الاستعارية.



الصورة البيانية في قصيدة «اقرئيها»


ويقدم أبو ريشة قصيدته بعبارة «أوراق ميت» يقول فيها:

«إنها حجرتي.. لقد صدئ النسـيانُ فيها.. وشاخ فيها السكوتُ!

ادخلي بالشـموع.. فهي من الظلمة وكرٌ فـي صدرها منحوتُ


وانقلي الخطو بـاتئـاد فقد يجفـل منك الغبـار والعنكبوت!!


عند كأسي المكسور، حزمة أوراق وعمر في دفتيـها شـتيتُ


احمليهـا، ماضي شـبابك فيها،  والفتون الذي عليه شـقيتُ


اقرئيـها، لا تحجبي الخـلد عني    انشريها، لا تتركيني أموتُ»



«روح الميت هي التي تتكلم في هذه القصيدة، إنها شبح رقيق يصاحب الحسناء المحبوبة إلى حجرة المحب. هذه الحجرة منسية، ويستعين الشاعر بالمعدن "الصدأ" الحسي الشيئي ليصف "النسيان" المعنوي الإنساني. والصمت مهيمن عليها، ويستعير الشاعر للسكوت المجرد للشيخوخة المجسدة، وإنها لاستعارة مؤثرة، إذ تجعلنا نرى في السكوت إجلالاً للمكان لأنه شاخ ولم يفارقه، ونرى في المكان الرهبة التي تثيرها الشيخوخة. والحجرة وكر منحوت في صدر الظلمة، إنها صورة تتلاءم مع رهبة المكان وشعريته وجوه الرومانسي الغريب. وهذه الصورة تبدأ بالجملة الإنشائية بعد الجمل الخبرية في البيت الأول، وفي هذا الانتقال إثارة لا تنكر، وهذه الجملة هي فعل الأمر: ادخلي بالشموع، والشموع بما هي أشياء من الماضي تثير الكوامن وتضفي على الصورة مسحة الابتعاد عن مألوف الحياة اليومية. ولم يقل الشاعر لها أن كل ما في هذه الغرفة عزيز عليه حتى الغبار وحتى العنكبوت، ولكنه عبّر تعبير الشاعر عن تلك المحبة التي يوليها لكل ما في الغرفة، حين طالب محبوبته أن تسير بخطوات متئدة لئلا يجفل الغبار والعنكبوت. فلماذا كل ما في الغرفة عزيز عليه؟ ماذا في هذه الغرفة؟ كأس مكسور، إنه كأس الخمرة التي كان يحتسيها وهو بعيد عن محبوبته، وإلى جانبه أوراق الشعر، إنها حزمة أوراق، ولكنها تختصر عمراً كما تختصر هذه القصيدة الكثير من المعاني الضمنية. لهذا كان كل ما في الغرفة عزيزاً عليه! إن هذه الحجرة المتهتكة تعيد الشباب، ويا للمفارقة!».



البعد الإيقاعي


«يتميز عمر أبو ريشة على وجه الخصوص بالصور الصوتية الخلابة التي يحبب إلى النفس جرسها ورونقها، وتنفذ انفعالاتها إلى القلب حتى قبل أن تنفذ معانيها. ويكاد المرء يشعر أنه قد استثمر كل الإمكانات الصوتية للأبحر الخليلية».


لإيضاح البعد الإيقاعي في شعر أبي ريشة، نستعير دراسة جميلة للدكتورة وجدان عبد الإله الصائغ، تقول فيها: «صاغ أبو ريشة صوره البيانية من خلال إحساس مرهف بالإيقاع وعبر ذائقة موسيقية متكاملة، ووعي دقيق بمستلزمات التواشج بين الصورة والإيقاع لخلق الدلالة الفاعلة على الحدث أو الموقف».


«ولأن ما يُدعى بالإيقاع الداخلي أو الموسيقى الداخلية، يبدو أقرب إلى الصورة البيانية وأدنى إلى طبيعتها، فستتناول الدراسة هذا الصنف من الإيقاع. ومن الجدير بالذكر أن الإيقاع الخارجي هو ما يتصل بالوزن والقافية، أما الإيقاع الداخلي الذي تتناوله هذه الدراسة فهو محاولة لرصد التواشج بين الصورة والإيقاع والكشف عما تتمخض عنه هذه الحالة فنياً ومعنوياً. وكان بعض الباحثين يرى أن الإيقاع الداخلي ينأى عن التحديد، فهو زئبقي الدلالة، تراه وتحس به إلا أنك لا تستطيع أن تعرفه على وجه الدقة. إلا أن باحثين آخرين رأوا لهذا الصنف من الإيقاع مظاهر التشابه أو التماثل أو التخالف في الحركات والسكنات أو الحروف إلى جانب أن كل إيقاع داخلي في قصيدة الشطرين يمكن أن يُرَدّ إلى مصطلحات البديع كالجناس والموازنة والترصيع ذي القافيتين أو التوشيح وغيرها».



«ومن الظواهر التي لها انعكاس على صور أبي ريشة البيانية، "التكرار" فهو يشكل ظاهرة ايقاعية واضحة في صور أبي ريشة البيانية». فمثلاً نراه في قوله:


إنهضي، إنهضي، فلستُ أطيق الـ    حُسْـنَ تذوي أزهاره في يديّا


«أما الظاهرة الايقاعية الأخرى فهي "الموازنة"، ومن شأن الموازنة أن لها رونقاً في الكلام، وهي تضفي جرساً بديعاً على العبارات مما يكون له أكبر الأثر في الإصغاء إليها». وفي هذا نرى قول الشاعر:


ربِّ أسمى من السمو نداما      ه وأسـنى من السنا روّاده


«إن الشاعر يعي هذه الهندسة الإيقاعية المتقابلة والمتناظرة من حيث طبيعة الألفاظ المختارة لبناء صورتيه الكنائيتين في هذا البيت، وقد تكرر حرف السين بما يُشبه الهمس الحزين مضفياً إيقاعاً خاصاً على الصورتين الكنائيتين».



«وكذلك، يضفي "الجناس" الذي هو "أن تتفق اللفظتان في وجه من الوجوه ويختلف معناهما" إيقاعاً محبباً على الصورة البيانية حينما يأتي في سياق متسق مع نسيجها. ويعد أحد الباحثين المعاصرين الجناس ضرباً من ضروب التكرار المؤكد للنغم». ومن هذا قول أبي ريشة:


عُدتِ لي هل عاد من غربته     شوقُكِ المضطربُ المضطرِمُ


«وهذا ما يسمى بجناس ناقص في لفظي (المضطرب) و(المضطرم). وتنتظم البيت صورة كنائية تشي بأن حبيبة الشاعر عادت ولكنها لم تعُد تحبه.



وكذلك "المقابلة" أي "أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها البعض أو المخالفة فيأتي من الموافِق بما يوافِق وفي المخالف بما يخالف على الصحة"، فإن للمقابلة صدى إيقاعياً من خلال انعكاسها على الألفاظ». في مثل قوله:


فهصَرْتُ زهرتها بدمعةِ شاكرِ    وعصرتُ شوكتها ببسمة صابرِ


وتتسق الصورتان الكنائيتان وتنسجمان كي تعبِّرا معاً عن أن الشاعر عاش الحياة بكل ما فيها من ألم وأمل.



ويعي أبو ريشة كذلك دور «توالي بعض الحروف وتتابعها» مما «يشكل حالة نغمية تُسهم في جلاء الصورة الفنية وتزيينها» ويُضفي إيقاعاً خاصاً على بعض صوره البيانية، فمثلاً نرى توالي حروف (الغين والتاء والنون) في قوله:


غنَّيْتُها حتى غَدَتْ       في مسمع الدنيا أغاني


وهنا يشكل أبو ريشة صورة استعارية تصريحية ذات طابع سمعي في قوله (غنيتُها)، وتشع من هذه الصورة البيانية صورة كنائية معبِّرة عن شعره الذي قاله في جمال بلاده وروعتها. وقد أكسب تكرار حروف الغين والتاء والنون وتتابعها في نسق منسجم حركة وجرساً متسقاً مع سياق الصور البيانية ذات الطابع السمعي، فضلاً عن أن التكرار مع تفاوت في الاشتقاق في مطلع البيت ونهايته (غنيتُها، أغاني) قد أدى هدفاً إيقاعياً بيناً وبذلك بدت الصورة البيانية أكثر تعبيراً ودلالة.



أخيراً وليس آخراً، ثمة ملمح وهو «الترصيع» و«هو الاتفاق في نهايات الألفاظ»، ومنه قوله:


إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا     أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا


«يكرر أبو ريشة صوت الباء وهو حرف انفجاري أضفى جرساً قوياً على الصور الكنائية الأربع التي انتظمت البيت. فضلاً عن هذه المقابلة في معاني الألفاظ داخل نسيج كل صورة كنائية».



الحوار الذاتي المسرحي


يشير د.محي الدين صبحي إلى أن عمر أبو ريشة كان أول شاعر عربي استعمل بنجاح فائق تقنية «الحوار الذاتي المسرحي» وهي قصيدة تقوم على قصة أو عقدة، وعلى مغزى يشرح وجهة نظر الراوي في الحياة بحيث تظهر شخصية الراوي عبر الحدث الذي يرويه ويتفاعل معه. تضم قصيدة الحوار الذاتي المسرحي، إضافة إلى شخصية الراوي، الشخصية التي يتكلم عنها الراوي، وهي غائبة عن المشهد بطبيعة الحال، وشخصية ثالثة بالغة الأهمية هي شخصية المستمع الذي يصغي إلى ما يقوله الراوي ويقوم بحركات تشعرنا بوجوده دون أن يتفوه بكلمة واحدة.


«كما أن أعراف تقنية الحوار الذاتي المسرحي تقضي بأن يختار الشاعر شخصيات ومشاهد تاريخية بعيدة عن عصره، مما يمنح القصيدة عدة منظورات لكل من المتكلم والمستمع والشاعر والقارئ من خلال عصرين: عصر الحادثة المروية وعصر الشاعر المؤلف».



«وقصيدة "كأس" التي نظمها أبو ريشة عام 1940 تحلل تطورات الحالة النفسية التي أدت بديك الجن إلى قتل جاريته التي كان يحبها أشد الحب، وكيف هام على وجهه بعد أن قتلها. وكان ينشد بين شربه وبكائه أبياتاً من الشعر»:


«دعها! فهذي الكأس ما مرَّت علـى شفتي نديم

لـي وقفةٌ معها أمــام الله، فـي ظل الجحيم


دعهـا! فقد تشقيك فيها لفحـة البغي الرجيـم


وتنفّـس الشـبح الشقي علـى جـذى حب أثيم


مـا لي أراك تطيل فيّ تـأمل الطرف الرحيم


أتخالني أهذي؟ وخمري صـحوة القلب الكليـم


اشرب! ولا تترك جراح السر تعوي في رميمي»



كما يشير د.محي الدين صبحي إلى أنّ عمر أبو ريشة لامس الشعر الغنائي في نقطتين: الأولى أن العديد من الحوارات الذاتية المسرحية تستعمل الأوزان الغنائية استعمالاً واضحاً، والثانية هي أن هذا الإلحاح على تحليل الذات وكشفها في الحوار الذاتي المسرحي، ولحظات الإخلاص المطلق فيه، هي جزء من صميم طبيعة الدافع الغنائي.



الشعر القصصي وقصائد الحكاية المجازية


وهنالك أيضاً محوران آخران يشير إليهما الدكتور صبحي في دراسته وهما «الشعر القصصي» و«قصائد الحكاية المجازية»، حيث أن «الشعر القصصي» هو الطريقة العربية التقليدية التي عالج من خلالها أبو ريشة سِيَر العظماء ورثاءهم. أما «قصائد الحكاية المجازية» ونراها في قصائد «نسر» (1938) و«بعض الطيور» (1964)، و«المرأة» (1961) و«بلبل» (1944). وتتميز قصائد الحكاية المجازية في شعر أبو ريشة بالتركيز والاختصار وسرعة الوصول إلى المغزى، بالرغم من قدرته على التطويل.


المسرح الشعري


يذكر أ.محمد اسماعيل دندي أن المسرحيات الشعرية أخذت تشق طريقها إلى الجمهور منذ حوالي قرن ونيف، وكانت الموضوعات التاريخية تغلب على هذه المسرحيات منذ ظهورها، ولعل أقدم ما نذكره مسرحية «المروءة والوفاء» الشعرية التي كتبها خليل اليازجي، وقد تابعه كثيرون، ولكن أحمد شوقي هو أول شاعر عربي لفت إليه الأنظار بمسرحياته التاريخية الشعرية، وكانت محاولات أبي ريشة في المسرح مبكرة، إذ نراه في عام 1929، وهو لما يبلغ العشرين من عمره، وشوقي نفسه مايزال في بداية تجاربه المسرحية، نراه يبادر إلى كتابة مسرحية بعنوان «ذي قار» إلا أنه لم ينشرها في العام ذاته، وإنما تأخر نشرها حتى عام 1931 إذ صدرت بحلب، وتناقلها طلاب المدارس، وراحوا يمثلونها.


يقول د.سامي الدهان: «العجيب أنه اتفق في النقد مع أبي نواس حين نال من شعراء عصره. وهكذا كان عمر في هذه الفترة شديداً عنيفاً في الهجوم على طريقة الشعراء لأيامه، يختلس الفرص للنيل منهم حتى أنه رسم مسرحية شعرية أسماها "محكمة الشعراء" جعلها في أربعة فصول، وحشد فيها الشعراء المشهورين. فانطلق كلاً منهم بما تخيل. فتناول شعراء العراق والشام ولبنان ومصر، فنَصَرَ بعضاً وخذل بعضاً في حواره، وفضح هذا الحوار طبائع كثيرة كانت مخبوءة. وقد جعل "أبولون" إله الشعر حاكماً بين الشعراء يستدعيهم ويسألهم ويحاورهم ويستمع إلى نقدهم بعضهم لبعض. و"منيرفا" إلهة الحكمة شاهدة ومعها إلهات اليونان يشهدن كذلك ويحاورن الشعراء. والمسرحية كلها بيان في طريقة المجددين والهجوم على طريقة القدماء في سخرية وهزء يلين ويقسو حتى لقد تناول كبار الشعراء بالنقد لمعانيهم وتقليدهم للقدماء».



«المسرحية التي بدأها وهو ما يزال شاباً نضجت متأخراً في مسرحيتي "تاج محل" و"سميراميس". وبذلك فتح أمام الكلاسيكية الجديدة الباب لتخرج من أسر القصيدة التي ظلت في الشعر العربي القديم الميدان الوحيد للعمل الشعري. إن عمر أبو ريشة بدلاً من أن يشق الطريق لهذا التطوير، فتح الباب واسعاً أمام الحركة الرومانسية، والتي وضعت الشاعر موضع التناقض مع المجتمع، الرافض لتقاليده المتحدي لقيمه. وبذلك كان عمر أبو ريشة الممهد الحقيقي لرومانسية من تلاه من شعراء محدثين».



قراءة في «أوبريت عذاب» (1935)


يشير أ.محمد اسماعيل دندي إلى أن هذه الأوبريت هي ثاني أعماله الدرامية المكتملة. وهو فن جديد وافد يقف مرابطاً على الحدود المشتركة بين الموسيقى والمسرح. والكلمة من أصل ايطالي (opera) وهي تعني تأليفاً موسيقياً تمثيلياً، يُبْنَى على رواية أو أسطورة أو قصة، وهي لا تخلو من الحوار الكلامي، وراجت في القرن الثامن عشر. أما الأوبريت، ويعود الفضل بها إلى «موزارت»، فهي أوبرا صغيرة، تطلق على الرواية الغنائية الفكاهية، وتعد ضرباً من ضروب الأوبرا الهزلية إذ يتخللها التمثيل والحوار المسرحي.


تدور أحداث الأوبريت في إطارها العام، ضمن ما كان يعرف في المسرح الأوروبي باسم تركيبة المثلث (الزوج والزوجة والعشيق) وتجمع في أحداثها المرح والمواقف الهازلة، إلى جانب المواقف المؤلمة، وتشمل وجود أشخاص متناقضين في طبائعهم. إن جميلاً الرسام هو نموذج الفنان المثالي، الذي يشغله فنه عن كل شيء في العالم، ويعتبر هزيمته في الحياة أو نصره فيها، رهناً بما ينتج من فن يرضيه، ويقنع طموحاته إلى الخلق والإبداع، أما نزار فهو الإنسان العصري الذي تشغله متعه وملذاته التي يشتريها بالمال، وينفق في سبيلها ما يراه ضرورياً، أما القيم والمثل، فقلما يوليها الاهتمام، وتقف المرأة سعاد مترددة مضطربة، تجنح مرة إلى الفن والمثل، فتعشق الفنان وتحاول إرضاءه، وتجنح مرة أخرى إلى المظاهر المادية، والمال، إلى درجة أنها تبيع جسدها بثمن بخس، ويشتد التناقض في نفسها، فتندفع إلى الانتحار إذ لم تستطع التوفيق بين المطلبين: المادي والمثالي.



هذا هو المجمل الذي تقوم عليه الأوبريت، حيث تلوح لنا شخصية الزوج جميل الذي احترف الفن، وأحب سعاد، ورسم لها صورة، وضع فيها كل جهده، ولكنه أحس بأنه لم يرسم سوى المظهر الخارجي، أما الروح فظلت نائية عن ريشته فهتف متألماً:


«ومن دون روحك هذا القناع     وما نسج الظن من برقع

كـأن حـدود الفنون انتهت     وما بلَّغتني، مدى مطمعي»



ويعبر عن تأمله بها فيقول:


عرفت بك الله بعد الضلال      فدل البديع علـى المبدع


أما كيف باعت سعاد جسدها، فيلوح من خلال خيانة نزار لصداقته مع جميل، خصوصاً أن الأول كان يحبها قبل زواجها من صديقه جميل، ولما كان يعرف مواطن ضعفها، فقد تسلل من خلالها ومارس إغراءها بالذهب الذي لوّح به نزار ممثلاً في خاتم ذهبي جعلها تتردد تردداً يشير إلى سهولة الانقياد، وهي تناجي نفسها قائلة:


أأمنحه قبلةً من فمي      وأدفن تذكارها في العدم؟


ولكن زوجها جميل يعود مصادفة إلى البيت فيجدهما في حالة عناق. وهنا يشير أ.توفيق صايغ إلى أن جميلاً لا يقابل توبة زوجته وندامتها المريرة بغير التهكم والسخرية، فيجعل حياتها جحيماً. وتختتم المسرحية كما يلي: «"تنهض بجنون" "جميل بسكون": جرى سمها يعيث بإحنائها كيف شاء. "ترمي سعاد بنفسها من النافذة، جميل يضحك ضحكة وحشية ثم يجلس بسكون أمام صورة فتاته ويبدأ بإتمامها". "الستار"».



وأخيراً، يشير أ.محمد اسماعيل دندي إلى أن ما أسماه عمر «أوبريت عذاب» يصلح مسرحية ذات فصل واحد، ولكنه قلما يصلح للعرض الموسيقي والتمثيل في آن واحد. وربما كان الأمر الأكثر قبولاً في التعامل مع الأوبريت المذكورة، هو أن تقرأ باعتبارها قصيدة درامية مخصصة للقراءة وحدها.



عالميته


يذكر الباحثون إلى أن عمراً قد تسابقت الجامعات توطئه منابرها وترهف إليه مسامعها. يتكلم بفصحاه بين الفصّاح، ويحاضر بثلاث لغات أعجمية بين الأعاجم، ويقرأ آداب سبع أمم بألسنتها من غير لوثة ولا التواء، وينظم بالإنكليزية ديواناً يبزّ به شعراء اللغة الأقحاح.


أولاً – الخطاب السياسي في شعر عمر أبو ريشة


«لقد شب عمر أبو ريشة وسورية في نضال دامٍ مع الفرنسيين، والشرق في ثورة لاهبة ضد المستعمرين فكان لذلك أثره في نفسه، واتجه بشعره في تصوير كفاح الأمة العربية». هذا، ناهيك عما شهده من أحداث جسام حاقت بالمنطقة العربية، منذ اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور عام 1917، وغدر الحلفاء، مروراً بثورة فلسطين عام 1936، وصولاً إلى النكبة عام 1948، واستفحال هزيمة العرب فيما أسموه بالنكسة عام 1967، ناهيك أيضاً عن عمله الدبلوماسي على مدار ربع قرن تقريباً، كل هذا دمغ شعره بخطاب سياسي لا يمكن تجاهله!!.


كما أن نزعته الرومانسية تجلت أيضاً في شعره السياسي الذي اتخذ طابع الرفض والتحدي لممارسات السياسيين العرب، ولمواقف الضعف والتخاذل في القضايا القومية كالقضية الفلسطينية.



فموقفه من بلدان النفط العربية خصوصاً نراه حاضراً على سبيل المثال لا الحصر في قصيدة «هكذا»، وهي لاشك تعبر عن صرخة وجدان العربي تجاه أنانية قادته وعبثهم، ربما هذه الصرخة نراها حاضرة لدى الشعب الفلسطيني، فنحن سمعنا منذ بضعة شهور ما تناقلته وسائل الإعلام، حين انقطع عن هذا الشعب الجليل خصوصاً في القطاع، إمدادات الوقود، وأصبحت المادة البديلة هي «الزيوت النباتية» لإدارة محركات السيارات في محطات الوقود، وكاد هذا الشعب الذي يعيش ويلات الحصار والتهديد بالقصف العشوائي، أن يعيش مأساة حقيقية، والشعوب الأخرى نائمة، ومن مظاهر هذه المأساة ما سببه تلوث الهواء الذي بدأ يسبب أزمات تنفسية بسبب الزيوت النباتية المستعملة، وفي الوقت ذاته سمعنا عن أحد الذين باعوا ضمائرهم من دول النفط، يقدِّم هدايا من النفط الخام إلى أميركا وربما إسرائيل أيضاً!!.



هذه الصرخات تتردد بين الحين والآخر في بلداننا العربية. ومنذ ما يقرب من نصف قرن نشهد هذه الصرخة عند شاعرنا عمر أبو ريشة، فهاهوذا يقدِّم قصيدته «هكذا» قائلاً: «في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته».



يقول الناقد ايليا الحاوي: «الشاعر يشهِّر بأمراء الخليج الذين فاض عليهم المال، فذلوا به وهانوا واقتصرت حدود دنياهم على كأس الشهوة ومضجعها. أما الفروسية فقد اضمحلت. والقصيدة تجري في سياق من الكنايات التي توحي إيحاءها، كدأبه بين ماضي المجد والكبرياء والفقر، وقد تكنى عليهما بالخيل والخيام، وحاضر التهتك، وافتقار الكرامة، وقد مثل عليهما بالكأس والمضجع. وهو يحلم بالعربي القديم الفارس وخيمة الفقر والكبرياء، وليس في ذلك دفع للتقدم والحضارة وتحريض على عدم الأخذ بالعلم، وإنما هي عودة إلى ينبوع البطولة الأول، إلى الإيمان بالبسالة أي القوة في سبيل الحق، لإنقاذ الإنسان العربي من عاره. وعار الأمة يبدو في شعر عمر كعاره الشخصي، كأنه يحمله وحده». يقول في القصيدة:


«صاح يا عبدُ، فرفَّ الطيبُ    واستعر الكأسُ وضجَّ المضجعُ!

منتهى دنياه، نهـدٌ شـرسٌ     وفمٌ سـمحٌ، وخصرٌ طـيِّعُ


بـدويٌّ، أورق الصـخرُ له      وجرى بالسـلسـبيل البلقـعُ


فـإذا النخوة والكِبَرُ علـى          ترف الأيـامِ جـرحٌ موجعُ


هانت الخيلُ علـى فرسانها! وانطوت تلك السـيوف القُطَّعُ


والخيـام الشمُّ مالت، وهوتْ    وعوت فيهـا الريـاح الأربعُ


....


قال يا حسناءُ ما شئتِ اطلبي   فكلانـا بالغوالـي مولـعُ


أختك الشـقراء، مدَّت كفهـا فاكتسـى من كل نجم إصبعُ


فانتقي أكـرمَ ما يهفـو لـه          معصـمٌ غضٌّ وجيدٌ أتلـعُ!


وتلاشى الطيب من مخدعه      وتـولاّه السـباتُ الممتـعُ


والذليـل العبد، دون الباب،     لا يغمض الطرفَ ولايضطجعُ!


والبطولات، علـى غربتها،      فـي مغانينـا، جيـاعٌ خشَّعُ


هـكذا، تُقتحم القدسُ علـى    غاصبيهـا، هكذا تُستـرجَعُ!!»

                                                                                                  1954



إذن، يصل الشاعر إلى البيت الأخير من القصيدة، وهنا لبّ القصيد ومفتاح القصيدة، أو حجر الأساس الذي يقوم عليه بناء القصيدة الذي بدونه ينهار البناء كله!!، نست

فينوس الملتحفة بالفِراء

فينوس الملتحفة بالفِراء

كان هامش المخطوط يتضمّن مجموعة من العبارات المعروفة من رواية فاوست. إحداها تقول: أكثر النساء إثارة هي تلك التي تقودك من أنفك".
قلبت صفحة العنوان، وقرأت: الأسطر التالية جمعتها من مذكّراتي في تلك الفترة، لأنه من المستحيل بكلّ صراحة أن يكتب شخص عن ماضيه. لكن بهذه الطريقة، فإن كلّ شيء يحتفظ بألوانه الجديدة؛ ألوان الحاضر".
غوغول، أو موليير الروسي كما كان يُلقّب، يقول: الملهمة الكوميدية الحقيقية هي تلك التي تتساقط الدموع من خلف قناعها الضاحك". قول رائع. لذلك يساورني شعور غريب جدّا وأنا أكتب كلّ هذا.
الجوّ يبدو مشبعاً برائحة الزهور المحفّزة، وهو أمر يغمرني ويسبّب لي صداعا. دخان المدفأة يتداخل ويتكثّف متحوّلا إلى شخوص صغار بلحى بيضاء يشيرون ساخرين بأصابعهم في وجهي. كيوبيدات ممتلئة الخدّين تركب على ذراعَي كرسيّي وتعتلي ركبتي.
ولا بدّ لي من ابتسامة لا إرادية، وحتى ضحكة عالية، وأنا أكتب عن مغامراتي. ومع ذلك فأنا لا أكتب بالحبر العادي، وإنما بالدم الأحمر الذي يقطر من قلبي. لقد فتحتُ كلّ الجروح الواسعة والمؤلمة. ومن حين لآخر، تسقط دمعة على الورق. الأيّام تزحف ببطء في هذا المنتجع الصغير. أنت لا ترى هنا أحدا ولا احد يراك. الوقت مملّ بما فيه الكفاية.
لست أكثر من شابّ هاو للفنّ، الرسم والشعر والموسيقى والعديد غيرها من الفنون التي تُسمّى مهناً غير مربحة. لكن قبل كلّ شيء، أنا شابّ يهوى فنّ الحياة. والى الآن، عشت كما كنت ارسم واكتب الشعر. هناك أناس يبدءون بكلّ شيء ولا ينتهون من شيء أبدا . أنا أحدهم.
اجلس الآن إلى جانب نافذتي في هذه البلدة الصغيرة التعسة. كم هو رائع منظر أشعّة الشمس الذهبية وهي تنعكس على الجبال الشاهقة. سيول الجبال تتراءى من بعيد كأشرطة من فضّة. السماء صافية زرقاء. والمنحدرات مغطّاة بالغابات الخضراء. والمروج ملأى بقطعان الماشية. والفلاحون يقفون وينحنون ثم ينهضون ثانية بين أكوام القمح الصفراء.
البيت الذي أعيش فيه محاط بحديقة أو غابة أو برّية، أيّا ما كان الوصف الذي تريد أن تطلقه عليها. وهو بيت منفرد جدّا. سكانّه الوحيدون هم أنا، وأرملة من ليمبيرغ، والسيّدة تارتاكوفسكايا التي تدير البيت، وهي امرأة عجوز ضئيلة الحجم تهرم وتصغر كلّ يوم. وهناك أيضا كلب عجوز يعرج على ساق واحدة، وقطّ صغير يلهو دائما بكرة من الغزل. كرة الغزل هذه، على ما أظن، تخصّ الأرملة.
يقال أن الأرملة جميلة، وأنها ما تزال صغيرة جدّا، في الرابعة والعشرين على الأكثر، كما أنها غنيّة جدّا. هي تسكن في الطابق الأوّل، وأنا في الطابق الأرضي. وهي دائما ما تُبقي على الستائر في غرفتها مسدلة. وللغرفة شرفة مغطّاة بالنباتات المتسلّقة الخضراء. من ناحيتي، لديّ عريشة مريحة من أشجار زهر العسل. وأنا اقرأ وأكتب وأرسم وأغنّي فيها مثل طائر بين الأغصان.
يمكنني النظر إلى فوق، أي إلى الشرفة. أحيانا افعل ذلك بالفعل. ثمّ من وقت لآخر، ألمح طرف ثوب أبيض بين الأوراق الخضراء الكثيفة. المرأة الجميلة هناك لا تهمّني كثيرا، لأنني في حالة حبّ مع شخص آخر. وأنا غير سعيد بتلك العلاقة، لأن الكائن الذي اعشقه مصنوع من الحجر.
في الحديقة القريبة، هناك مرج جميل يرعى فيه زوج من الغزلان بسلام. في هذا المرج تمثال حجريّ لـ فينوس. النسخة الأصلية من التمثال موجودة، على ما أظنّ، في فلورنسا. فينوس هذه هي أجمل امرأة رأيتها في حياتي. يكفي أن أقول إن فينوس هذه جميلة. وأنني أحبّها بشغف وجنون كما لو أن المرء يمكن أن يحبّ امرأة لا تستجيب له بأيّ شيء، عدا هدوئها وابتسامتها الأبدية.
أحيانا اقرأ مستلقيا تحت الغطاء الوارف لشجرة بتولا صغيرة عندما تشرق الشمس على الغابة. وفي كثير من الأحيان، أقوم بزيارة عشيقتي الباردة والصلبة ليلا، واستلقي على ركبتيّ أمامها ووجهي مسنود على قاعدة التمثال الذي ترتاح عليه قدماها. وهناك أبثّها صلواتي.
من خلال تعاملي مع الصور الفوتوغرافية، استطعت تشكيل صورة عن أفكاري المثالية. إنها نسخة صغيرة من لوحة تيشيان "فينوس مع مرآة". يا لها من امرأة! أردت أن أكتب فيها قصيدة. تناولت الصورة وكتبت عليها: فينوس الملتحفة بالفراء.
"أنت باردة، بينما تشعلين الحرائق حولك وتلفّين نفسك في فرائك الخاصّ الذي لا يناسب أحدا سواك كإلهة للحبّ والجمال". بعد فترة أضفت إلى القصيدة بعض أبيات من شعر غوته وجدتها مؤخّرا في فاوست: لها زوج من الأجنحة الخيالية، والسهام في يدها ليست أكثر من مخالب، والإكليل يُخفي قرونا صغيرة. إنها تشبه، دون شكّ، كلّ آلهة اليونان القديمة، باستثناء أنها شيطان متخفّ".
ثم وضعت الصورة أمامي على الطاولة، وأسندتها بكتاب، وأخذت انظر إليها. لقد ملأني إعجابا وخوفا هذا التدلّل البارد الذي تلفّ به هذه المرأة الرائعة مفاتنها في الفراء وهذه الشدّة والصلابة التي تكمن في هذا الرخام البارد.
ومرّة أخرى أخذت قلمي، وكتبت الكلمات التالية: أن تحِبّ وأن تُحَبّ، تلك هي السعادة. ومع ذلك، كيف يُقارَن بريق هذه الأشياء الشاحبة مع متعة الخضوع لامرأة طاغية الجمال تستعبدنا، بل وتدوسنا بالأقدام دون رحمة. شمشون، البطل العملاق، وضع نفسه في يدي دليلة. وحتى بعد أن غدرت به وخانته وربطه أعداؤه وأخمدوا نور عينيه، بقيت نظراته مثبّتة عليها ومملوءة حبّا وغضبا على الخائنة الجميلة".
كنت أتناول إفطاري في عريشة زهر العسل وأقرأ كتاب جوديث. وقد حسدت البطل هولوفيرنس على تلك المرأة الملوكية التي قطعت رأسه بالسيف ومنحته تلك النهاية الدموية الجميلة. "وضرب الربّ سبحانه فأسلمه ليَدَي امرأة". هذه الجملة أعجبتني بشكل غريب. قلت لنفسي: ما الذي بإمكاني أن افعل حتى يحلّ بي نفس العقاب؟
بين الأغصان الخضراء وشتلات الورد، لاح الثوب الأبيض مرّة أخرى.
في تلك اللحظات، أتت مدبّرة المنزل التي تضاءلت أكثر ما بين عشيّة وضحاها وطلبت مني شيئا كي تقرأه الأرملة التي فوق. وركضت إلى غرفتي وجمعت لها مجلّدين. وتذكّرت في وقت لاحق أن صورة فينوس كانت تتوسّط احدهما. بعد لحظات تناهت إلى سمعي ضحكات الأرملة. ترى هل كانت تضحك عليّ؟
كان القمر قد اكتمل. كان ضوؤه ينعكس على قمم الأشجار التي تحيط بالحديقة. وهواء أو دخان فضّي يملأ الشرفة. كانت الأشجار على البعد تتلاشى تدريجيا مثل مياه مضطربة.
لم أستطع المقاومة. شعرت بدافع غريب ونداء في داخلي. ارتديت ملابسي وخرجت إلى الحديقة على عجل. قوّة ما تجذبني نحو المرج، نحوها، إلهتي وحبيبتي. الليل بارد. والجوّ ثقيل برائحة الزهور والغابة.
يا للهدوء! كان هناك عندليب يتنهّد. النجوم تتلألأ ببريق ازرق شاحب. المرج يبدو ناعما، مثل مرآة، مثل غطاء من الجليد على بِركة. وتمثال فينوس يقف مضيئا.
ولكن ما الذي حدث؟ من المنكبين الرخاميين لتمثال الإلهة، كان يتدلّى فراء داكن يصل إلى كعبيها. أقف مصعوقا وأنا أحدّق فيها. يستولي عليّ الخوف.. وأهرب.
أسارع بخطواتي، وأكتشف أنني أضعت الطريق الرئيسي. وبينما أنا على وشك أن أتحوّل إلى الممشى الأخضر الجانبي، أرى فينوس تجلس أمامي على مقعد حجري. لم تكن المرأة الرخامية الجميلة، وإنما إلهة الحبّ نفسها بدم حار ونبضات تخفق.
لقد عادت فعلا إلى الحياة من اجلي، مثل التمثال الذي بدأ يتنفّس لخالقه.
شعرها بدا انه لا يزال من الحجر، ورداؤها الأبيض يشعّ مثل ضوء القمر. ومن كتفيها يفيض الفراء الداكن. شفتاها بدأتا تحمرّان وخدّاها يأخذان لونهما. وخيطان من الوميض الشيطانيّ الأخضر يخرجان من عينيها ليقعا عليّ. ثم تناهى إلى أذنيّ صدى ضحكات ساخرة.
اهرب أبعد وأبعد. وبين كلّ بضع خطوات، كان يتعيّن عليّ أن أتوقّف لألتقط أنفاسي. الضحكات الساخرة تتعقبّني بين الممرّات الداكنة، وعبر المساحات المفتوحة من الضوء والأوراق الكثيفة التي لا يمكن أن يخترقها سوى شعاع ضئيل من ضوء القمر.
لم يعد بمقدوري أن اعثر على طريقي وأنا أهيم على وجهي حائرا تماما، بينما قطرات من البرد تبلّل جبيني. وأخيرا وقفت ساكنا.
الآن أصبح كلّ شيء واضحا تماما أمام عينيّ مرّة أخرى. هناك النافورة، وهناك الزقاق المرصوفة جوانبه بالخشب، وهناك المنزل الذي أقترب منه ببطء. دخلت المنزل والتقطت أنفاسي، وجلست أفكّر.
صباح قائظ آخر. الجوّ ساكن ومحمّل بروائح الأزهار. أجلس تحت أشجار زهر العسل وأقرأ في الأوديسا عن الساحرة الجميلة التي كانت تحوّل معجبيها إلى بهائم. صورة رائعة من صور الحبّ القديم.
ثمّة حفيف ليّن بين الأغصان. صفحات كتابي تخشخش. وعلى الشرفة، هناك أيضا خشخشة. ثوب امرأة. هي هناك، أي فينوس، ولكن من دون فراء. إنها الأرملة هذه المرّة.
كانت تقف هناك في ثوبها الصباحيّ الخفيف والأبيض وتنظر إليّ. قوامها يبدو مملوءا بالشِعر وبالنعمة. ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة. بشرتها رقيقة وفمها صغير جدّا. شعرها أحمر، ليس بالأشقر أو الذهبيّ أو الأصفر. وهي تلفّه حول عنقها بطريقة شيطانية. عيناها الآن تلتقيان بعينيّ مثل حزمتي برق أخضر. عينان خضراوان كالأحجار الثمينة أو كبحيرات الجبال العميقة بلا قرار.
لاحظتْ حيرتي. ولفظاظتي، كنت ما أزال أضع قبّعتي على رأسي. كانت تبتسم بخبث. وأخيرا نهضتْ. وانحنيت لها. اقتربت شيئا فشيئا ثمّ ندت عنها ضحكة عالية وطفولية. كنت أتأتيء مثل ما يفعل هاو صغير أو حمار كبير في مثل هذا الموقف.
هكذا بدأ التعارف بيننا.
- اسمي واندا فان دوناهيو.
قلت بعد أن استجمعت شجاعتي: لكن سيّدتي، ما الذي دفع بهذه الفكرة إلى رأسك؟
قالت: الصورة الصغيرة في احد كتابيك.
كنت قد نسيت ذلك.
- والملاحظات الغريبة خلفها.
ولماذا هي غريبة؟
نظرت إليّ قليلا ثم قالت: لطالما أردت، على سبيل التغيير، أن أتعرّف على حالم حقيقي. ويبدو أنك واحد من أكثر أفراد القبيلة جنونا.
لثوان وقعت ضحيّة لعثمتي البلهاء واحمرّ وجهي خجلا.
ثم قالت: لقد كنت خائفا منّي الليلة الماضية.
حقّا؟ بالطبع.. ولكن لماذا لا تجلسين؟
جلست، كانت تستمتع بإحراجي. كنت في الواقع أكثر خوفا منها الآن ونحن في وضح النهار. وارتسم على شفتيها تعبير لذيذ بالاحتقار.
- أنت تنظر إلى الحبّ، حبّ المرأة خصوصا، كشيء خطير. شيء تحاول أن تدفعه عنك حتى لو كان ذلك دون جدوى. انك تشعر بأن قوّة المرأة عليك تمنحك إحساسا بمتعة التعذيب، بالقسوة الموجعة. وهذه نظرة حديثة حقّا".

- مترجم "عن نصّ للكاتب النمساوي ليوبولد فون ساشرماسوش".

نساء الاوديسّا

نساء الاوديسّا

في ملحمة الاوديسّا، يقدّم هوميروس نماذج متعدّدة ومختلفة للنساء وللكيفية التي كان ينظر بها المجتمع الأبويّ الإغريقي إلى المرأة.
في ذلك الوقت لم تكن النساء يتمتّعن بالكثير من الحرّية. كما كان الهامش المتاح للمرأة في اختيار طريقة حياتها ومستقبلها ضئيلا. كانت المرأة المثالية عند الإغريق عموما هي تلك الوفيّة لبيتها والمطيعة لأوامر زوجها.
لكن الاوديسّا تتضمّن أفكارا أخرى كثيرة. والملحمة نفسها تتمحور حول رحلة اوديسيوس التي يرصد هوميروس من خلالها مراحل التطوّر الفكري والروحي التي يمرّ بها البطل في رحلته. كما تتناول بعض القيم التي كانت سائدة زمن هوميروس مثل الوفاء والعزيمة وكرم الضيافة وما إلى ذلك.
المقال التالي يتحدّث عن أربع نساء ورد ذكرهنّ في الاوديسّا ولعبن أدوارا مهمّة في رحلة اوديسيوس الأسطورية. كما يرصد تأثير هذه الشخصيّات في الأدب الحديث.
حدث ذات مرّة أن قذف الموج برجل في منتصف العمر على شاطئ جزيرة منعزلة. قبل 19 عاما، كان اوديسيوس قد بدأ رحلته من موطنه ليحارب في طروادة. لكن طروادة كانت قد سقطت قبل ذلك بـ 10 سنوات. والآن مضت تسع سنوات أخرى ولم يصل اوديسيوس بعد إلى موطنه إيثيكا، حيث تنتظره زوجته بينيلوب وابنه تيليماكوس.
الرحلة من طروادة تستغرق عادة ثلاثة أسابيع عبر بحر ايجه وصولا إلى ساحل البحر الأيوني ومن ثم إلى إيثيكا. لكن اوديسيوس أغضب بوسيدون، فقام هذا الأخير بإغراق رجاله ثم حكم عليه بالنفي الأبدي ليعيش كلاجئ مبعد عن موطنه.
من نواح كثيرة، يمكن اعتبار اوديسيوس شخصية حديثة. فهو يروق كثيرا لحالمي القرن الحادي والعشرين، تماما مثلما كان قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام عندما كان الرواة يقصّون أحداث الاوديسّا من الذاكرة.
اوديسيوس هو رمز لسكّان الأرض الذين كانوا متناثرين عبر بحارها في يمكن وصفه بأنه نسخة أرضية من نظرية الانفجار الكبير. نحن الآن في العصر الذي أطيح فيه بكبار الآلهة في العصور القديمة. غير أن الاوديسّا حديثة بمعنى آخر تماما. أليس من حقّ القارئ الحديث أن يسأل ما إذا كان اوديسيوس قد أطال رحلته لأسبابه الخاصّة؟
النساء اللاتي قابلهن على طول الطريق، مثلا؟
كاليبسو..
كانت الآلهة القديمة تخشى كاليبسو وما يمكن أن تفعله بالبشر إذا هم تاهوا في البحر وحلّوا على شطآن جزيرتها. معظم الرجال الذين قابلوها لم يعودوا إلى زوجاتهم أبدا. وآخرون هجروا زوجاتهم وذهبوا باحثين عن نساء مثاليات دون أن يعرف احد إلامَ انتهى مصيرهم.
يذكر هوميروس أن كاليبسو كانت حورية خالدة وبارعة الجمال. وكانت تشتهي أن يكون اوديسيوس من نصيبها. ولا بدّ وأن مرآها كان يروق لرجل في أواسط العمر. هي لم تتلاعب بأعصابه مثلما فعلت الساحرة سيرسي قبل ذلك بعام. كما أنها لم تكبر ثم تتغيّر ثم تنضج كما حدث للأميرة الشابّة نوسيكا. ولم تحاول أن تسيطر عليه كما كانت تفعل زوجته بينيلوب. هل كان اوديسيوس يبحث عن الرفقة الكاملة؟ هل يبحث رجل حكيم عن امرأة مثالية؟ وإذا فعل، هل يكون ذلك "أمرا حكيما"؟ وهل الأغبياء فقط هم من يؤمنون بفكرة الرفيق المثالي؟
مضت سبع سنوات على وجود اوديسيوس في جزيرة كاليبسو. وفي احد الأيّام، توسّلت الإلهة أثينا، حامية اوديسيوس، إلى زيوس وغيره من الآلهة أن يبادروا إلى إنقاذ اوديسيوس من براثن كاليبسو. في عالم الإغريق القديم، مثل هذه القرارات كان يلزمها الإجماع. وافق زيوس والآلهة على أن شيئا ما ينبغي أن يُفعل. واُرسل هيرمِس فعلا لإعلام كاليبسو أن عليها أن تطلق سراح اوديسيوس على الفور. ترى، هل توسّل اوديسيوس فعلا إلى الآلهة كي تسمح له بالهرب من كاليبسو، أم أن تلك كانت رواية أثينا عن القصّة؟ الأجزاء اللاحقة من الاوديسّا يرويها اوديسيوس نفسه. لذا فإنها تخلو من إجابة واضحة على هذا السؤال.
عندما يذهب هيرمس إلى كاليبسو ليطلب منها إطلاق اوديسيوس تحتجّ على طلبه قائلة: انتم الآلهة لا يمكن تحمّلكم. شعوركم بالغيرة يجعلكم تقفون مذعورين من إلهة تنام علنا مع الرجال". قوّة كاليبسو واستقلاليّتها كانا يهزّان أركان العالم القديم ويحرجان الأوصياء على شئونه. إلهة فقط يمكنها أن تقول مثل هذه الأشياء. غير أن قرار كبار الآلهة يُعتبر نهائيا وملزما.
كاليبسو تجلس في حديقتها على طرف الكهف الذي تعتبره بيتها. الهواء العليل في المكان يضوع بروائح أزهار الربيع الشذيّة. الطيور تغنّي، وهناك نار تشتعل. كاليبسو تتحرّك وتلوّح بيديها وتغنّي على أمل أن يقرّر اوديسيوس أن يبقى معها باختياره. إنها تنسج خيوط أحلامها بالحياة العائلية والرضا والاستقرار ورفض الصراعات والتوقّف عن ملاحقة الرجال. بل إنها تعده بالشباب الأبدي والخلود، مثلها تماما، إن هو قرّر البقاء. غير انه يجد كلّ هذه الوعود خانقة ولا تناسب الرجال. يتجوّل بعيدا بين الأشجار إلى أن يصل إلى المقعد الحجري في أعلى الجرف مستطلعا الأفق العاري للبحر.
عندما أزفت النهاية، كانا على وشك أن يتعاركا. منذ زمن طويل لم يعد بمقدور الحوريات أن يمتّعن الرجال. كان اوديسيوس قد بدأ يتجنّب كاليبسو مفضّلا الجلوس أمام البحر والتحديق في الأمواج. هذا ما كان يفعله دائما عندما يستبدّ به الحنين إلى ارض الوطن. وهذا ما يفعله العشّاق غالبا عندما يتفرّقون: يحدّقون في البحر، ولا يعود الجنس الكامل والطعام الشهيّ يكفيان في النهاية.
لذلك، ومثل العشيقة التي تراقب حبيبها وهو يعود إلى بلاده وزوجته، كانت كاليبسو تتابعه وهو ذاهب مع حركة المدّ في الصباح. إنها حتّى لا تساعده في بناء الطوف الذي سيبحر به. هو لا يقول وداعا، وهي لا تسعى لحمله على قولها. سبع سنوات معا تُعتبر فترة طويلة. وبعض الأشياء من الأفضل أن لا تقال.
أدرك اوديسيوس انه يجب أن يرحل. هذه مجرّد مرحلة في عملية التطوّر الطبيعي من الميلاد إلى الموت، حيث نصبح جميعا لوحدنا ويتعيّن عندها أن يختار كلّ مصيره بنفسه. يختار هو أن يغادر أخيرا. هذا هو السبب في أن الآلهة تساعده وفي أن كاليبسو أذعنت لمشيئته في النهاية. ورغم أنها إلهة، إلا أنها فعلت ذلك وهي تحسّ بغضب عميق. لكنها تفهّمت رغبته في أن يكبر وأن يجرّب الصراع وألم الفراق مرّة أخرى وأن يخرج من حياة الركود إلى أمواج المحيط المظلم التي ستأخذه مجدّدا إلى وطنه.
دورة الحياة لا يجب أن تتعطّل لفترة أطول مما ينبغي. والقصيدة نفسها يجب أن تأخذ مداها بلا توقّف. لو أن اوديسيوس مكث مع كاليبسو هناك، لما كان ثمّة شعر. ربّما لهذا السبب لم تكسب كاليبسو أبدا قلوب من ترجموا الاوديسّا من الرجال. كانت لديهم أفكار محدّدة حول عودة اوديسيوس إلى بينيلوب. بعضهم تحدّثوا عن القصّة من منظور التحليل النفسي. هل كانت جزيرة كاليبسو تذكّره بالرحم الذي كان يهرب منه طوال حياته؟ اوديسيوس كان يشتكي من آلام الولادة الجديدة التي تأجّلت عندما كان يعيش معها. والكثيرون زعموا أن اسم كاليبسو محمّل بالاستعارات الجنسية الرائجة في التحليل النفسي.
هل كانت أسطورة العلاقة الكاملة والمرأة المثالية تعني انه سيفقد كلّ شيء آخر جعل منه رجلا؟
هناك حزن أساسي يرتبط بشخصية كاليبسو. فهي لم تُدع مرّة ثانية كي تعود إلى الأساطير. يمكن للمرء أن يقول إنها ستظهر ثانية في المستقبل البعيد على هيئة امرأة فاتنة وغامضة ووحيدة في "سيّدة البحيرة" وأساطير الملك آرثر. كما ستظهر من جديد في شخصية "سيّدة جزيرة شالوت" الأكثر هشاشة.
الإلهات اللاتي يتحدّين الزمان والمكان نادرات في الثقافة الغربية. وهن لا يتزوّجن ولا ينجبن أطفالا. لكنهنّ على الأرجح يتُقنَ لذلك. سيّدة البحيرة، مثلا، تخطف لانسيلوت وهو طفل. وهنّ يظهرن في القصص من حين لآخر ثم يختفين فجأة. وهذا أمر غير منصف تماما.
اوديسيوس كان لديه طفل وقد أوفى بدينه للمجتمع، فلماذا لم يستطع أن يبقى مع كاليبسو وينجب طفلا آخر أو اثنين؟ النقّاد يريدوننا أن نصدّق أن جاذبيّتها الخطيرة تكمن في خلودها وفي نكرانها لذاتها، وهو أمر يلقى صدى طيّبا في القرن الحادي والعشرين، مع وجود رجال غربيين كثر لم يعودوا يعرفون ما يريدون. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل في أن الزواج الثاني يمكن أن يكون شيئا حسنا وفي أن اوديسويس ربّما سيكون اسعد حالا معها لو أن الراوي منحه حرّية الاختيار في المسألة.
سيرسي..
قبل أن يذهب اوديسيوس إلى جزيرة كاليبسو مكث سنة مع إلهة جميلة أخرى هي سيرسي التي كانت تختلف كثيرا عن كاليبسو.
عندما وصلت سفينته إلى جزيرتها، لم يكن يعرف أين هو. لكن طاقم سفينته كانوا معه عندما وصل. أرسل اوديسيوس عددا من رجاله لاستطلاع الجزيرة. فوجدوا سيرسي، ساحرة البحر، التي قامت بتسلية أولئك البحّارة الأجلاف واستضافتهم. وقد أطعمتهم وغنّت لهم وغازلتهم، بل وشجّعتهم على نسيان أوطانهم وزوجاتهم. وهذه هي إحدى مفارقات السفر. إنه يذكّرك دائما بالوطن الذي تركته وراءك. لكن يمكن تخفيف ذلك الشعور بالكحول والجنس والعقاقير المخدّرة. وكانت سيرسي تعرف "عقاقيرها" جيّدا. عندما كانت تلوّح بعصاها السحرية الطويلة، كانت تحوّل الرجال جميعهم إلى خنازير تغطّ في نوم عميق.
في النهاية، أتى اوديسيوس باحثا عن بحّارته. وبدا أنه كان يعرف كيف يسيطر على المرأة جنسيا. وقد تحقّق له هذا بفضل هيرمس الذي أعطاه ترياقا يقاوم عقاقير المرأة وبعض التعليمات عن أساليب الإغواء التي ستجذبها إليه. كانت سيرسي تحبّ الرجل الطبيعي، الرجل الترابي الذي يناسب إلهة للخصوبة. كانت تعيش في بيت مفتوح مبنيّ من الحجارة جيّدة الصقل وله أبواب لامعة وتحيط به غابة. كانت سيرسي تستطيع سحر الحيوانات البرّية كالأسود والذئاب التي تعيش على جزيرتها. لذا استطاعت أيضا أن تسحر اوديسيوس. وانتهى الأمر بهذا الصيّاد الوسيم والفظّ في أحضانها.
وفي سريرها الرائع عرف أسماء النساء الخطيرات اللاتي سيقابلهن في المستقبل. كما علّمته أن يفهم أنهنّ جميعا إسقاطات لخوف الرجل من الأنثى واحتقار الجنس مع النساء.
استمرّ اوديسيوس معها عاما كاملا. وقد وافق في النهاية على المغادرة مضطرّا بعد ما رآه من ضيق بحّارته ونفاد صبرهم.
كان هناك الكثير من التوتّر الجنسي في جزيرة سيرسي. وقد راق هذا كثيرا لكتّاب الأدب الحديث مثل جيمس جويس وإيزرا باوند. في رواية الأوّل بعنوان اوليسيس "أو عوليس"، تظهر سيرسي في سلسلة من المشاهد التي تنقلب فيها الأدوار وتمتلئ بالممارسات السادية والماسوشية وبالهلوسة والكوابيس. وفي ديوان باوند "الأغاني"، تلعب سيرسي دورا وسيطا بين الحورية والإلهة التي لا يمكن بلوغها مثل أثينا وأفرودايت. أي أن سيرسي أصبحت رمزا للعالم الحسّّي ومثالا للغواية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن باوند عندما كتب تلك القصائد كان يعيش مع زوجته، لكنه كان يتردّد على عشيقته. لذا ومرّة أخرى، يأخذ اوديسيوس مكان الصدارة. فهو يستمتع بوقته مع سيرسي، لكن من الواضح أن عليه أن يسمو فوق الأمور الحسّية ويعود إلى زوجته.
الكاتبة كاثرين بورتر تمنح سيرسي قوّة جنسية وتلوم اوديسيوس على بروده ولامبالاته في السرير عندما كانت هي في ذروة عطائها ومحبّتها.
كما تأخذ بورتر على البحّارة ضجرهم وتبرّمهم في الجزيرة، في حين أنهم مدينون لـ سيرسي برعايتها لهم وإكرامها إيّاهم. وإذا كانت سيرسي تتمتّع بالتفوّق على الرجال، فإنها لم تُظهِر ذلك بطريقة متغطرسة أو أنانية، بل كان السبب ببساطة أنها كانت أكثر ذكاءً منهم.

نوسيكا..
كانت نوسيكا مع وصيفاتها يلهين بالكرة على الشاطئ. بعضهنّ كنّ يغسلن الثياب بالجوار عندما ظهره اوديسيوس من بين الأشجار بلا ملابس. كلّ ما كان يرتديه كان غصن زيتون يستر به عريه. من الصعب الاستماع إلى رجل عار ثم أخذه على محمل الجدّ. لكن نوسيكا كانت امرأة حديثة. "هل يخيفكنّ منظر رجل"؟ قالت لوصيفاتها. لكنهنّ هربن في اللحظة التي انزلق فيها غصن الزيتون قليلا عن مكانه. كلّ أصدقائها وعائلتها يشهدون بجمالها وبطبيعتها الودودة. ومع ذلك لم تظفر برجل. هل يكون اوديسيوس هو الزوج المنتظر؟
رتّبت نوسيكا لـ اوديسيوس أمر ذهابه إلى المدينة ليقابل والديها، الملك والملكة، حيث يستطيع سرد قصّته للأجيال القادمة. قالت إنها ستمشي في إثره إلى هناك. إذ لا حاجة لتغذية الشائعات والقيل والقال بذهابهما معا.
عندما جرفت الأمواج سفينته وحطّ أخيرا على شاطئ جزيرتها، كانت تلك فرصتها. ترى، هل أضاعتها؟ هل كان يجب أن تدعوه ليظلّ معها؟ هذا هو الظهور الأوّل والأخير لـ نوسيكا في الاوديسّا. ومع ذلك، ففي عام 1897 قرّر الشاعر سامويل بتلر أن هذه المرأة لا بدّ وأن تكون هي من كتب قصائد هوميروس بأكملها. وقد بنى قضيّته على حقيقة أن معظم الاوديسّا رواها اوديسيوس في قصر والدها. ومن الواضح أنها كانت هناك لسماعها.
بعض الأدباء من الرجال اعترفوا بحبّهم لها بطريقة باذخة. وهناك مسلسل ياباني مشهور أطلق اسم نوسيكا على إحدى بطلاته. ترى، أيّ نوع من النساء كانت تلك المرأة؟ هل كانت تفضّل أن تُمنح فضل إغواء اوديسيوس أم كتابة الاوديسّا؟ وهل تكون الاوديسّا فعلا تلخيصا لوجهة نظر امرأة؟
إننا لا نعرف الكثير عن هوميروس. ولا نعرف ما إذا كان شخصا واحدا أو عدّة أشخاص. لكن البعض يزعم انه كان أعمى. وقد يكون هو الراوي الأعمى الذي يظهر في الاوديسّا. لكن الخيط المنسوج هنا ليس هو ذات الخيط. ونوسيكا لا تنسج أبدا قصّة عن نفسها.
إنها ما تزال شابّة وغير متزوّجة. كما أنها قد لا تناسب رجلا كبيرا ومتزوّجا مثل اوديسيوس.
بإمكان المرء أن يتخيّل أنها لو كانت هي من كتب الاوديسّا، لكانت خصّصت لنفسها جزءا اكبر وأفضل في الملحمة. وربّما كانت قد صوّرت قصّتها كلقاء ايروتيكي بين رجل كان يحنّ إلى ماضيه البعيد وامرأة شابّة تبحث عن رجل حقيقي. وهناك احتمال أنها لو كانت هي من كتب الملحمة، لكانت استبدلت صور الجنس المبتذل فيها بمشاهد رومانسية بين عاشقين يحترم كلّ منهما الآخر بعمق.
في الأدب الحديث، هناك معجبون كثر بـ نوسيكا. جويس يتحدّث عنها بأوصاف أكثر واقعية. يمكن القول إنها التجسيد النهائي للذكاء والغواية. ولا بدّ وأنها كانت تروق لرجل في منتصف العمر يسعى لتجديد شبابه مع امرأة اصغر منه سنّا. أليس هذا ما يريده كلّ الرجال في مثل هذه السنّ على كل حال؟ لكن لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن اوديسيوس كان يريد أكثر ممّا كان بوسع امرأة شابّة وجميلة أن تحقّقه.
بينيلوب..
كان لورانس العرب احد مترجمي الاوديسّا العديدين. ترى، ما الذي دفع ذلك الرجل الكاره للنساء لترجمة هذا الكتاب؟
هل تكون فكرة المثلية الجنسية هي ما اجتذب لورانس إلى اوديسيوس "ذلك الأناني البارد الدم" كما كان يصفه؟
هل لأنه، هو أيضا، كان يحبّ فكرة الترحال وكان قلقا على مصير حرّية الرجل في عالم من الملهيات الأنثوية؟
لم يحبّ لورانس النهاية العائلية السعيدة التي آلت إليها الاوديسّا. لكنه لم يفكّر بإعادة صياغة القصّة كي تبلغ نهاية مختلفة.
هل كان مقدّرا لـ اوديسيوس أن يعود إلى زوجته بينيلوب التي عانت من غيابه طويلا؟
هل كانت هؤلاء النساء، كاليبسو وسيرسي ونوسيكا وحتى بينيلوب، مجرّد نساء ذوات جمال فتّاك اختُرِعن لإغراء البطل وإبعاده عن العالم لبعض الوقت ومن ثم إعادته إلى الحياة المنزلية كي يصبح مجرّد زوج صالح؟
هل كنّ شبقات ومغريات ومتحكّمات ويسعين إلى الإيقاع بالبطل؟
في أرض الموتى، يطلّ شبح اغاممنون الذي قتلته زوجته عند عودته من طروادة ويقول لاوديسيوس: لا تتساهل كثيرا حتى مع زوجتك. ولا تسِرّ لها بكلّ ما تعرف". هذه النصيحة متوقّعة من اغاممنون، فهو لم يفهم النساء أبدا.
الاوديسّا تتناول ما هو اكبر من العودة إلى البيت والعائلة. إنها عن اختيار الإنسان لشريكه المثالي وعن توافق الجنس والزواج وعن الطريقة التي يمارس بها الرجل حياته قبل أن يعود في النهاية إلى المكان الذي بدأ منه. الاوديسّا هي عن الانبعاث وعن البحث عن هويّة جديدة. لكنّها أيضا عن الوفاء.
ماذا كان اوديسيوس يريد؟ وما الذي يريده الرجال عموما؟ من الواضح أن اوديسيوس اختار بينيلوب كزوجة. عندما سقطت طروادة، كانت بينيلوب تتوقّع عودته. لم يكن قد مضى على زواجهما وقت طويل عندما غادر. كان ابنهما تيليماكوس ما يزال وقتها طفلا رضيعا. ومع مرور السنوات، توقّفت أخبار اوديسيوس. بكت بينيلوب كثيرا. وعندما عاد اوديسيوس إلى إيثيكا، كان قد مضى على غيابه تسعة عشر عاما ظلّت خلالها بينيلوب دون شريك جنسي كلّ ذلك الوقت.
كانت تفقد ملامحها وتتقدّم بها السنّ شيئا فشيئا. لقد كانت تفتقد الزوج الذي يحميها ويدافع عنها. كان بإمكانها أن تتّهمه بهجرها. هل بوسع أيّ امرأة أن تنتظر طويلا مثلما فعلت؟ في الحقيقة كانت هناك مزايا واضحة لكونها وحيدة أو أرملة. كانت بينيلوب ما تزال بخير نسبيا، وهو ما جعلها هدفا لأصحاب عروض الزواج. وعلى الأقلّ كان بمقدورها أن تختار. كان العديد من الشبّان الوسيمين يتقرّبون منها محاولين خطب ودّها. قيل إنها كانت تستمتع باهتمامهم بها. وكان هذا صحيحا في البداية.
غير أنها لم تختر أحدا منهم كزوج، لأن ذلك كان سيضع نهاية مفاجئة لحالتها. وهناك احتمال أن تجد اوديسيوس عند عتبة بابها في اليوم التالي. كما كانت تعرف أن الخُطّاب الآخرين وأهل المدينة سينتقدونها في اللحظة التي تختار فيها زوجا.
كانت بينيلوب تنسج غزلها في النهار وتنقضه في الليل. النسج كان عمل النساء منذ العصور القديمة. وهو اليوم رمز أنثوي لإبداع المرأة وللقصص التي لم تكن تُسمع أبدا عندما كان الاهتمام كلّه منصبّا على الرجل أو الزوج.
الاضطهاد معادل للصمت كما يقال. وبحْث بينيلوب لم يكن مختلفا عن بحْث اوديسيوس. لكن لم يكن عندها سفينة ولا إله يدلّها ويقودها خارج المجهول. بحثها يرمز لرفض العنف الذي يسكن الرجال. ستتوقّف النساء عن النسج عندما يتوقّف العنف. وقد اختارت بينيلوب أن تقاوم ونسجت قصّة واحدة هي قصّة رفضها للخاطبين. إنها القصّة الناقصة عن امرأة في بحر من قصص الرجال. وبينيلوب هي، بمعنى ما، مثال للأمّ العزباء هذه الأيّام.
لذا داومت على المماطلة حتى بعد أن عاد اوديسيوس، لأنها كانت تريد أن تستكشف حقيقة شعورها نحوه بعد عودته. هل كانت تريده أن يعود فعلا؟ عندما عاد، كان متنكّرا في ثياب شحّاذ. لكنّها تعرّفت عليه في الحال. ومع ذلك أرادت أن تتأكّد انه هو نفس الرجل وأنها هي أيضا، ربّما، نفس المرأة. لذا تفحّصت ذكرياته وأصرّت عليه أن يحلق وأن يتحمّم. ثم قامت بقياس أدائه في السرير. ولم توافق على الاعتراف به إلا بعد أن رأت تلك الندبة في منطقته الخاصّة.
عالجت بينيلوب الوضع بحكمة. وشخصيات الاوديسّا تعتبرها امرأة حكيمة.
في النهاية، كانت لدى الآلهة خططها. والآن حان وقت التنفيذ. وقد اقتضت الخطط أن يُقتل جميع الخاطبين. وكانت النتيجة مذبحة دموية. لم تشعر بينيلوب بأيّ ندم على هذا الحكم، لأن الخاطبين كانوا يستحقّون ذلك. لقد استغلّوها وأكلوا سمعتها سواءً في بيتها أو خارجه. لذا تضمّن الحكم ذبح جميع أقاربهم أيضا. لكنّ الآلهة أوضحت أن هذه هي نهاية الدائرة. بعد ذلك عاش اوديسيوس وبينيلوب معا إلى أن أدركتهما الشيخوخة.
الزواج في الاوديسّا يمكن أن يُنظر إليه باعتباره مؤسّسة متدهورة ورمزا للموت. وإلا كيف يمكنك أن تفسّر خيانة هيلين لزوجها أو قتل كليتامنسترا لزوجها اغاممنون أو سفر اوديسيوس الطويل؟
الاوديسّا لا تحكي عن انتصار الزواج بعد انفصال دام تسعة عشر عاما، بل عن حقيقة انه لزم اوديسيوس تسعة عشر عاما كي يعود. نساء الاوديسّا لا ينصبن شراكا للرجال. الرجال هم الذين يوقعون أنفسهم في شراك أوهامهم وحِيَلهم.
الكتّاب الإغريق الذين أتوا بعد هوميروس كانوا يعرفون هذا. وقد سخروا كثيرا من دوافع اوديسيوس. أما دانتي فقد وضع اوديسيوس في الجحيم باعتباره إنسانا منافقا وخائنا لنفسه ولأولئك الذين أحبّهم.
ونظرا لتدخّل الآلهة، استطاعت بينيلوب أن تمسك المستقبل بيديها لبضع ساعات، وكان بإمكانها أن تدمّره كما فعلت كليتامنسترا. وقد نجا الزواج، فقط لأن بينيلوب اختارت أن تعترف بزوجها.
تخيّل لو أنها رفضته. هذه هي النهاية التي اختارها جويس لروايته، حيث تستلقي "موللي بلوم" في سريرها متذكّرة حياتها وعشّاقها بينما يشخر "ليوبولد بلوم" في الظلام إلى جوارها. لم تكن وفيّة ولا مخلصة له، لكنها كانت تريد أن تتمسّك به.
هل سيذهب اوديسيوس ثانية في سفر آخر بينما تجلس بينيلوب هناك بانتظار عودته مرّة أخرى؟ هذه هي النقطة التي تبدأ منها رواية نيكوس كازانتزاكيس "الاوديسّا: تتمّة حديثة". في هذه الرواية يبدأ كازانتزاكيس من حيث انتهى هوميروس، حيث يغادر اوديسيوس البيت مرّة أخرى ليبدأ رحيلا آخر.
يمكن النظر أيضا إلى الاوديسّا باعتبارها تأكيدا لقيمة الزواج وفضيلة الوفاء الذي ينشأ بين الأزواج أيّا تكن الظروف. كما يمكن أن تكون تصويرا لإخلاص الأنثى من وجهة نظر هوميروس. في الملحمة، تبدو بينيلوب امرأة قويّة برغم حزنها. كما أنها تتمتّع بالذكاء العملي والقدرة على التخطيط البعيد. ولا يؤكّد هذا أفضل من قولها لـ اوديسيوس: فكّر في المصاعب التي سبّبتها لنا الآلهة. لقد حرمتنا من الحياة معا في ذروة شبابنا وسنوات عمرنا المزهرة. ومنعتنا من العبور معا بين مراحل العمر". هذه هي بعض أقوى العبارات التي كُتبت في الأدب الغربي، وهي تتحدّث إلى أيّ إنسان في منتصف العمر وما بعده. ورسالتها واضحة لا لبس فيها: اللوم يقع على الآلهة، لا على أنفسنا". "مترجم بتصرّف"

ميرزا غالب

"من الذي يملك عمرا كافيا ليتطلّع في طيّات شعرك؟! كلّ قطرة ندى تنتظر الموت عند وصول أشعّة الشمس. وأنا أيضا انتظر أن أتحرّر عندما ترمقينني بنظرة".
"سمعنا عن طرد آدم من الجنّة. بمزيد من الإذلال سأرحل عن الشارع الذي تقيمين فيه".
"في الحبّ، لا فرق بين الحياة والموت. نحيا على صورة الكافر الذي قد نموت لأجله".
"أيّتها المستبدّة! سيعرفك الجميع إذا انزلقت خصلات شعري المجعّد من تحت عمامتي".

بعض الشعراء يتحدّثون عن الثورة. وبعضهم الآخر عن تعاسة الحبّ. والبعض الثالث عن معنى الحياة. و ميرزا أسد الله خان غالب (1797-1869) يمكن اعتباره شاعر الجنون: جنون العشق، جنون الوجود، وجنون الفناء.

ومحاولة الكتابة عن هذا الشاعر هي في حدّ ذاتها انتقاص من شعره وما يمثّله. وبعد قراءة شعره، سيبدو لك الكثير من الشعراء الآخرين باهتين مقارنة به.
عالم غالب بوتقة حقيقية من المشاعر الإنسانية. وبقدر ما يطمح قارئه في أن يفهم شعره، بقدر ما يكتشف أن ذلك الشعر مثل العنقاء، غامض وبعيد المنال. بعض أشعاره بسيطة بشكل خادع. وهناك منها ما قد تأخذ منك أشهرا قبل أن تكشف لك عن أسرارها الكامنة.
بالإضافة إلى شعره، فإن ما يحبّب الكثيرين إلى شعر غالب هو شخصيّته. ومن خلال رسائله التي هي انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي في عصره، تستطيع أن تستنتج، مثلا، انه تعّرف إلى بعض الأسرار الغامضة للكون أثناء حديثه مع فتاة جميلة رآها ذات يوم في حانة. ويبدو أن غالب كان يتنقّل على حدود عالَمَين في وقت واحد. وهذا أمر نادر جدّا بين الشعراء.
في مسائل الحبّ خاصّة، كان الجنون هو ما يميّز غالب ويبرزه. وبعض تعابيره القويّة عن العشق تذكّر بمجنون ليلى.
"لماذا يخاف قاتلي/معشوقي؟ لا احد سيعتبره مسئولا عن الدم الذي سينهمر من عينيّ بلا انقطاع طوال حياتي".
"إن كان هناك من يريد أن يكتب لها رسالة، فيمكن له أن يسألني. ففي كلّ صباح أغادر بيتي وقلمي فوق أذني".
"من كنت أتوقّع منه الإنصاف والثناء على ضعفي تبيّن انه مثخن أكثر بنفس السيف القاسي".
على الرغم من أن غالب كان رجلا مؤمنا، إلا انه لم يكن أبدا إنسانا متديّنا. ومثل الكثير من الصوفيين الذين أتوا قبله وبعده، لم يكن يعترف بأيّ تمييز بين طبقة وأخرى أو بين دين وآخر. ويمكن اعتبار شعره صدى لهذه الرسالة العالمية.
وجاذبية شعر غالب هي اليوم أكثر قوّة ممّا كانت عليه أثناء حياته. ربّما لأن شعره هو انعكاس للطبيعة المتأصّلة فيه كإنسان. وهو في شعره يتناول شتّى المشاعر الإنسانية كالحبّ والبؤس والوجود والعدم.
"بحقّ الله، لا ترفع العباءة التي تغطّي الكعبة. أخشى أن يكون الكافر الذي تحتها معشوقي".
"شتّان ما بين باب المسجد وباب الحان. ما أعلمه أنني عندما غادرت الحان بالأمس رأيت الفقيه يدخله".
"أوه، يا ربّ! ليست الخطايا التي ارتكبتها هي ما اندم عليه، بل تلك التي لم تواتِني الفرصة لارتكابها".
"انوي الذهابُ إلى مكانٍ اختلي فيه مع نفسي. في ذلكَ المكان، لا أحد غيري ولا أحد حولي. أريد أن ابني لي بيتا بلا باب ولا جدران ولا حرس أو جيران. وعندما أرحل عن هذه الحياة، لن يكون هناك من يندبُ حظّه أو يذرف الدموع".
الذين تحدّثوا عن غالب وشعره كثيرون. وأشهر هؤلاء هو رالف راسل، الأستاذ في كلّية لندن للدراسات الشرقية والأفريقية، الذي ألّف أكثر من ستّة كتب عن الشاعر.
ولد غالب في اغرا بالهند في 27 ديسمبر 1797 لعائلة تعود أصولها إلى السلاجقة الأتراك. والده تزوّج من أسرة موسرة في اغرا. لكنّه توفّي عندما كان غالب في الخامسة من عمره. وقد قضى الصبيّ معظم طفولته في منزل جدّيه لأمّه، وتلقّى تعليمه بالفارسية والعربية والأردية، كما درس المنطق والفلسفة. وطوال حياته، عاش غالب حياة متقشّفة. كان دائما بحاجة إلى المال وكان يعيش على الديون.
بدأ الشاعر الكتابة باللغة الأوردية في سنّ مبكّرة جدّا، وباللغة الفارسية عندما بلغ الحادية عشرة. وقد تزوّج في سنّ المراهقة، وأنجب العديد من الأطفال. لكنّهم جميعا توفّوا وهم صغار.
وخلافا لأسلافه القدامى، قرّر غالب أن يعيش من القلم بدلا من السيف. ولأن البلاط الملكي كان مقرّه في دلهي، فقد انتقل غالب إلى هناك كي يحصل على رعاية الإمبراطور المغولي بهادور شاه ظفر، الذي كان هو نفسه شاعرا. وكان أيضا يطمح في نيل رضا النبلاء الذين كانوا يتردّدون على القصر، وكذلك الانجليز.
في رسالة إلى ملكة بريطانيا آنذاك، يكتب غالب ممنّيا النفس بأعطية أو مكافأة: من عادة ملوك بلاد فارس أن يملئوا أفواه الشعراء باللؤلؤ أو يمنحوهم وزنهم ذهبا أو يفتحوا لهم خزائنهم". المفارقة أن الرجل الذي أثرى الأدب الفارسي والأوردي بقي متسوّلا طوال حياته.
كان ميرزا أسد الله خان غالب شاعرا منفلتا على طريقته. وعلى الرغم من أنه كان يوقّر الله والرسول، إلا انه لم يكن مواظبا على الصلوات، ولم يكن يصوم رمضان، كما لم يذهب لأداء الحجّ في مكّة.
وكان معروفا عنه ارتياده لبيوت المتعة ومصاحبته للمحظيّات. كما كان مولعا بشكل مفرط بالخمرة. كان يفضّل النبيذ الفرنسي، وكان يحبّ أيضا النبيذ الاسكتلندي الذي كان يشربه مساءً ممزوجا بالماء المعطّر أثناء نظمه لأشعاره. وكان يرى أن من لم يذق طعم النبيذ ولم يعرف القمار ولم يُضرب بحذاء معشوقة يوما ولم يدخل السجن لا يمكن أن يكون شاعرا!
"أهل العرفان منهكون من تعب الطريق. معظمهم تخلّوا عن المهمّة ولم يستدلّوا أبدا على عنوانك".
"إضغط على قلبك لتزيل ذلك السهم القاتل. إذا خرج سيخرج معه قلبك".
"واحسرتاه! ليس هناك من ممدوح يستحقّ المدح. وليس هناك من معشوق يستحقّ الغزل".
يُروى انه بعد إخماد ثورة عام 1857، قام الانجليز بطرد جميع المسلمين من دلهي. والتزم غالب منزله في الوقت الذي كان فيه التمرّد مستمرّا. وقد استدعاه كولونيل انجليزي وسأله: ألست مسلما؟ فقال: نصف. فسأله الانجليزي: ماذا تقصد؟ فأجاب: أنا لا آكل لحم الخنزير، لكنّني اشرب الخمر".
وعلى الرغم من أن غالب عاش حياة بساطة وزهد، إلا انه كان شغوفا بالقمار. وقد عوقب ذات مرّة بالسجن ثلاثة أشهر لإدارته محلا للقمار.
الغريب أن غالب كان يعتقد أن المشاعر العميقة لا يمكن التعبير عنها بلغة الأوردو. وكان يفضّل أن يكتب شعره بالفارسية بدلا من الاوردية. لكن لحسن الحظ انه غيّر رأيه في الوقت المناسب وترك لنا هذا الكنز الثمين من القصائد والأشعار النفيسة بالاوردية.
صحيح أن أشعاره تفقد الكثير من بريقها ووهجها وموسيقيّتها بفعل الترجمة. لكن شيئا من المعنى يصل في النهاية.
حاول غالب التنبّؤ بسنة وفاته. ولكنه اخطأ في تخمين ذلك. وقد كان أقرب ما يكون إلى الحقيقة عندما كتب يقول: الحياة تمرّ بوتيرة متهوّرة، لا أعرف أين ومتى ستتوقّف. يداي ليستا في السلاسل وقدماي ليستا في الرِكاب".
ميرزا غالب ما يزال يتمتّع بشعبية كبيرة في الثقافة المعاصرة. وقد تغنّى بأشعاره الغزلية العديد من مشاهير الغناء الهنود والباكستانيين مثل عابدة برفين ونور جيهان ونصرت فاتح علي خان وغيرهم. كما كان موضوعا لأكثر من عمل سينمائي ومسرحي. "مترجم".

جينتيليسكي: صورة البطلة الأنثى

جينتيليسكي: صورة البطلة الأنثى

خلافا للطليعيات من النساء اللاتي برزن في الرسم مثل سوفونيزبا ويسولا ولافينيا فونتانا اللتين تنتميان لعائلتين موسرتين، فإن ارتيميزيا جينتيليسكي التي توفّيت والدتها عندما كانت في سنّ الثانية عشرة، أتت من خلفية اجتماعية أدنى ونشأت في بيت عنيف.
في العام 1612، وكان عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة، ظهرت جينتيليسكي في محاكمة اغتصاب مثيرة. كانت تلك الحادثة كافية لأن تعيش الرسّامة حياة نبذ وعزلة وأصبح من المستحيل بالنسبة لها أن تنال رضا الطبقة الارستقراطية التي كانت ترعى الفنون وتكلّف الفنّانين برسم أعمال فنية لأفرادها.
ولدت ارتيميزيا جينتيليسكي (أو جينتيلاشي كما يُنطق اسمها بالايطالية) في روما عام 1593م. وكان والدها الفنّان اوراتسيو جينتيليسكي ابنا لصائغ من توسكاني. وقد تعلّمت ارتيميزيا الرسم من والدها وأتقنت أسلوبه بسرعة، لدرجة انه كان من المستحيل أحيانا تمييز أعمالها عن أعمال والدها، خاصّة في سنوات مراهقتها.
في مايو من عام 1611 وجد اغوستينو تاسي، وهو رسّام كان والدها يتعاون معه في انجاز لوحات جدارية في القصر البابوي، وجد ارتيميزيا وحدها ترسم في منزل العائلة فقام باغتصابها، وفي ما بعد وعد بأن يتزوّجها.
كان لدى اوراتسيو عدد من الأصدقاء التافهين. والغريب انه اتخذ من تاسي صديقا له حتى مع علمه بالسجلّ المشين لهذا الأخير وبارتكابه جرائم عنف في العديد من المدن الإيطالية. وكان من بين التهم التي سبق أن وجّهت له زنا المحارم ومحاولته قتل زوجته العاهرة. وعندما اتضح أن زوجة تاسي كانت ما تزال حيّة وأنه لم يكن في موقف يسمح له بالزواج من ارتيميزيا لتصحيح خطئه، بادر والدها بتوجيه تهمة الاغتصاب له في المحكمة.
كان والد ارتيميزيا يحاول استعادة شرف ابنته. إلا أن إحالة القضية إلى المحكمة عرّض المرأة للعديد من الاتهامات الباطلة بالفجور. ولأنها فقدت عذريتها وهي ما تزال غير متزوّجة، فقد اعتبرتها المحكمة امرأة عديمة الشرف وبالتالي لا يمكن الاعتداد بشهادتها. لكنها تمسّكت بروايتها عن الحادثة. وفي النهاية أدين اغوستينو تاسي وحُكم عليه بالنفي. لكن الحكم لم يُنفّذ أبدا.
اوراتسيو الذي كان قد حاول أكثر من مرّة إجبار ارتيميزيا على أن تصبح راهبة، زوّجها على عجل من رجل عجوز يدعى بييترو ستياتيسي. وسرعان ما غادرت بمعيّته إلى فلورنسا.
في الفترة التي سبقت ذلك، كان والدها قد تعرّض لتأثير النجم الصاعد كارافاجيو. وهذا كان له تأثير ملحوظ على لوحات ارتيميزيا. لكن من غير المرجّح أن تكون قد رأت لوحة كارافاجيو جوديث تقطع رأس هولوفيرنس قبل أن ترسم ترجمتها الخاصّة للقصّة حوالي العام 1612م.
وعلى أيّ حال، فإن لوحة ارتيميزيا تختلف بشكل ملحوظ عن لوحة كارافاجيو في تصوير الصراع الدرامي الذي تلعب فيه خادمة جوديث دورا نشطا. في اللوحة تظهر الخادمة وهي تمسك الجنرال بشكل محموم بينما تحزّ البطلة عنقه بسيفها فيما يتدفّق دمه أسفل السرير.
وقد قيل إن العنف الشديد في هذا المشهد يعكس ردّ فعل ارتيميزيا على حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها.
ومن أشهر أعمالها الأخرى لوحتها المبهرة سوزانا والكَهْلان التي رسمتها عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها. ومن الواضح أنها استخدمت نفسها كموديل في اللوحة العارية. وقد فعلت ذلك مرارا في لوحاتها. قصّة هذه اللوحة تتحدّث عن الاغتصاب أيضا. وملامح المرأة فيها هي نفسها ملامح ارتيميزيا. وربّما أرادت من خلالها التأكيد على براءتها، تماما مثلما ظهرت براءة سوزانا في القصّة.
الانتقال إلى فلورنسا شكّل بداية حياة جديدة لـ ارتيميزيا كفنّانة. موهبتها المثيرة للإعجاب تغلّبت على مكانتها الاجتماعية المتواضعة ومنحتها فرصة الاتصال بالشخصيات الفكرية التي كانت تجتمع في منزل بوناروتي. هناك تعرّفت ارتيميزيا إلى العالم الشهير غاليليو. لكنها أيضا تعرّفت إلى فرانشيسكو ماريا دي نيكولو مارينجي الذي أصبح عشيقها وداعمها المالي.
وفي عام 1614، وبفضل مساندة رعاتها الأقوياء وزملائها الفنّانين، أصبحت ارتيميزيا أوّل امرأة يتمّ قبولها في أكاديمية فلورنسا للفنون.
كانت ارتيميزيا تميل إلى رسم النساء العاريات بطريقة لا تخلو من إثارة. وكانت شخصيّاتها في الرسم تحمل شبها قريبا منها، كما هو الحال مع لوحتها داناي.
علامة ارتيميزيا الفارقة كانت المرأة البطلة: سوزانا، جوديث، لوكريتسيا، كليوباترا، مريم المجدلية. وهنّ يظهرن في لوحاتها عاريات غالبا.
كانت ارتيميزيا جينتيليسكي تواكب الموضة وتتبع أسلوب حياة باذخا، ما تسبّب في تراكم ديونها والتزاماتها المالية. وقد اضطرّت إلى الذهاب إلى روما عام 1520 حيث وجدت رعاة جددا واستغلّت الفرص الجديدة لتطوّر سمعتها كرسّامة بورتريه. وقد كُلّفت برسم لوحة كبيرة لتزيّن جدران كاتدرائية بوتزولي في نابولي. وكانت قائمة رعاتها في ذلك الوقت تتضمّن اسم الملك الاسباني فيليب الرابع.
وفي أواخر عام 1630 سافرت الرسّامة إلى لندن حيث كان والدها يعمل آنذاك رسّاما في بلاط الملكة هنرييتا منذ العام 1626م. وقيل إنها ذهبت إلى هناك لمساعدة والدها الذي كان قد أصبح عجوزا ولرسم بعض اللوحات في سقف قصر الملكة في غرينيتش.
كانت جينتيليسكي أوّل رسّامة امرأة تدير محترفا كبيرا مع مساعدين كثر. وقد قضت بقيّة حياتها في نابولي، المدينة التي لم تكن تحبّها كثيرا، طبقا لما توحي به رسائلها. وقد توفّيت هناك في عام 1654م.
ومؤخّرا، ظهر فيلم سينمائي عن حياة وفنّ ارتيميزيا جينتيليسكي. غير أن الفيلم تعرّض لانتقادات كثيرة بسبب افتقاره للدقّة التاريخية. وقد قدّم الفيلم المغتصب تاسي بصورة العاشق المتمنّع والإنسان النبيل الذي وقف إلى جانب الرسّامة وأشعل موهبتها الإبداعية في الرسم. "مترجم".






قراءة هادئة في مشهد عنيف

اصطدمت عيناي بهاتين اللوحتين أكثر من مرّة وفي أوقات مختلفة بينما كنت أبحث عن لوحات تصلح لأن تضاف إلى سلسلة اللوحات العالمية. وفي كلّ مرّة، كان ردّ الفعل مزيجا من الصدمة والاستغراب. الصدمة؛ لأن المنظر صادم ومستفزّ من حيث طبيعته وتفاصيله. فأنا لا أظنّ أن هناك منظرا يمكن أن يفوق في توحّشه وساديّته منظر قتل إنسان بقطع رأسه كائنا ما كانت الجريمة التي ارتكبها. أما الاستغراب فمردّه أن من يقوم بفعل الذبح في الصورة امرأة. ومن هنا قد يستكثر الإنسان على المرأة، بما يُفترض أنها جُبلت عليه من رقّة وعاطفة، أن ترتكب عملا يتسم بالعنف والوحشية، بصرف النظر عن مدى عدالة أو منطقية الأسباب وما يُساق لها أحيانا من مبرّرات ودوافع وطنية أو دينية.. إلى آخره.
وليس هناك حاجة للقول إن المنظر الذي تصوّره اللوحتان مزعج وغير مريح بالمرّة. فالعنف فيهما واضح والقسوة صارخة بما لا يحتمل. ويقال إن لوحة كارافاجيو هي اللوحة الأعنف في تاريخ الفن التشكيلي العالميّ.
كارافاجيو ايطالي وكذلك الرسّامة ارتيميزيا جينتيليسكي. ولوحتاهما هنا تعالجان موضوعا واحدا بطلته امرأة يهودية اسمها جوديث. وهي نموذج للمرأة التي تقتل العدوّ كي يحيا شعبها. وسلاحها في ذلك جمالها وجاذبيّتها الطاغية.
والقصّة تعود إلى حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وقد ورد ذكرها في الإنجيل. وفي تفاصيلها أن الملك البابلي نبوخذ نصّر أرسل قائد جيشه هولوفيرنس على رأس كتيبة ضخمة لتأديب الشعوب المجاورة التي لم تساند حكمه. وقد فرض هولوفيرنس خلال تلك الحملة حصارا على أهالي مدينة تسمّى بيتوليا. ومن تلك المدينة خرجت جوديث التي ستقتل القائد البابلي وتنهي الحصار المفروض على قومها. وقد مثلت القصّة كثيرا في الفن، ورسمها مايكل انجيلو في سقف كنيسة سيستين في ثلاثة مشاهد متسلسلة.
وجوديث نموذج آخر لنساء يهوديات كثيرات فعلن شيئا مثل هذا.
دليلة، مثلا، سلّمت شمشون الجبّار إلى أعدائه بعد أن سيطرت عليه بسحرها وغوايتها.
وسالومي، وهي بغيّ يهودية أخرى، اشترطت على الملك الروماني هيرودس أن يأتيها برأس يوحنّا المعمدان (أو يحيى بن زكريّا في الأدبيات الإسلامية) مقابل أن تهبه نفسها. وكان لها ما أرادت.
وقائمة النساء من هذا النوع طويلة. ومن الواضح أن ثمّة ثلاثة عناصر ثابتة في مثل هذه القصص: الجنس والتخفي والخمر.
لكن، لا يُعرف على وجه اليقين ما إذا كانت هذه القصص - باستثناء الأخيرة - حقيقية أو أنها مجرّد أساطير أو حكايات فولكلورية جرى تأليفها لإضفاء طابع البطولة والتضحية على شخصية المرأة اليهودية.
ومنذ فترة، اطلعت على دراسة جميلة كتبتها اندريا مارتن، أجرت فيها مقارنة بين رؤية كل من كارافاجيو وأرتيميزيا جينتيليسكي لقصّة جوديث من منظور الجندر، أو الفوارق الجنسانية بين الرجل والمرأة.
تبدأ الكاتبة كلامها بالحديث عن الأرملة اليهودية جوديث التي حاولت وقف هجوم العدوّ على شعبها، فدخلت مخيّم الجيش المهاجم مع وصيفتها لمواجهة قائده المسمّى هولوفيرنس.
وقد تمكّنت المرأة من دخول المخيّم بعد أن فتنت الحراس بجمالها. وهي ستفعل الشيء نفسه في ما بعد مع هولوفيرنس. واستطاعت في ما بعد إقناع القائد البابلي بأنها راغبة فعلا في مساعدة جيشه فقبل مشورتها له بتأجيل خطة الهجوم.
وفي إحدى الليالي وبعد أن تناول الجميع العشاء، سكر القائد حتى أغمي عليه وأصبح في حالة من الضعف مكّنت جوديث "بدعم من العناية الإلهية" من قطع رأسه.
وعادت هي ووصيفتها منتصرة إلى أرض قومها ومعها رأس القائد المقطوع. وبذا ضمنت سلامة شعبها، كما يقول الإنجيل.
الترجمات الفنية للقصّة مختلفة ومتباينة. بعضها يصوّر جوديث وهي تصلي من اجل العون الإلهي قبل وقت قصير من بدء مهمّتها. بينما تظهر في لوحات أخرى حاملة رأس هولوفيرنس وهي في طريق عودتها إلى قومها.
ولوحة ارتيميزيا جينتيليسكي عن القصّة هي عبارة عن تصوير عنيف ومبتكر للحظة التي تحزّ فيها المرأة رقبة الرجل. والمنظر يثير شعورا بقوّة الأنثى وسيطرتها.
ثم تجري الكاتبة مقارنة بين لوحتي كارافاجيو و جينتيليسكي عن الحادثة، في محاولة للوقوف على الاختلافات والفوارق بين أسلوبي الرسّامين في معالجتهما للموضوع، فتقول: إن الفحص المتأنّي للغة الجسد في هاتين اللوحتين سيكشف بوضوح عن اختلاف الفنانين في رؤيتهما للقصّة من منظور الجندر.
فـ كارافاجيو، من منظوره الذكوري، يرسم جوديث معتمدة على تدخّل الربّ باعتباره الوسيلة التي تمنحها القوّة.
بينما جينتيليسكي، من منظورها الأنثوي، تؤكّد على أن قوّة جوديث متأصّلة فيها ومتأتية من ذاتها. فهي تبدو قويّة، مصمّمة ومعتدّة بنفسها بينما تباشر قطع رأس قائد الجيش الغازي.
إنها تمسك بيدها اليسرى خصلة من شعره لمنعه من الحركة فيما ذراعها الأيمن يجري الخنجر بقوّة على رقبته. كما أنها تُميل جسدها إلى الخلف في محاولة لإبعاد الدم عن ملابسها، تماما مثلما يفعل من يذبح حيوانا.
إن المرأة تؤدّي مهمّتها بإحكام. وهي ترمق هولوفيرنس بنظرات باردة توحي بأنها منفصلة عن ضحيّتها، لكنها أيضا تعكس إصرارها وعزيمتها.
وتعبيرات وجهها، خاصّة ما حول الحاجبين، تنمّ عن تركيز وتصميم شديدين. وهي تبدو مستعدّة بل وراغبة في قتل الخصم بلا اكتراث أو ندم.
ورغم أن القصّة الإنجيلية توحي بأن تدخل الربّ كان ضروريا وحاسما في مساعدة المرأة على تنفيذ عملية القتل، فإن أسلوب جينتيليسكي في التعامل مع شكل وهيئة جوديث يكشف عن أن الرسّامة تعتقد انه حتى وإن كان الفعل قد نفّذ بمشيئة الله فإنها تعتبر جوديث قادرة تماما على أداء واجبها بفضل حيَلها الخاصّة وقوّتها الجسدية وبراعتها.
إن جوديث في لوحة جينتيليسكي تميل بجسدها إلى الوراء، لكن جوديث كارافاجيو تفعل ذلك كما يبدو نتيجة إحساسها بالصدمة النفسية من تصرّفها. إنها لا تسيطر على نفسها، بل ترتكب جريمة قتل لأن إرادة الله أوجبت ذلك.
وبينما تبدو جوديث جينتيليسكي وهي تنفذ المهمّة بوحي من شعورها الوطني وقوّتها الخاصّة والكامنة، فإن كارافاجيو يصوّرها وكأنها تطلب مساعدة الإله في ارتكاب ذلك العمل.
ومن الواضح أن جينتيليسكي تريد أن تقول إن النساء يمكنهن التحكّم في أيّ وضع يواجهنه. وفي المقابل، يُظهر كارافاجيو الأنثى في وضع من يطلب تدخّلا إلهيا لكي يتغلّب على مثل ذلك الظرف الهائل والعصيب.
والواقع أن تعامل الرسّامَين مع خادمة جوديث يكشف، هو أيضا، عن فارق جنساني آخر.
ورغم انه من غير الواضح في الإنجيل كم كان عمر الخادمة، فإنها تبدو في لوحة جينتيليسكي شابّة وقويّة، بل وأيضا مشاركة بفاعلية في جريمة قتل هولوفيرنس .
إن جينتيليسكي تشرك الخادمة في عملية القتل، وفي هذا مخالفة للرواية الدينية التي تذكر أن جوديث قهرت خصمها بفضل العناية الإلهية وحدها.
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن موت القائد كان على يد المرأتين الشابتين. وهو تفسير قد لا يخطر ببال رجل بسهولة.
ذلك أن فكرة أن تقوم نساء بقتل رجل، بصرف النظر عمّا إذا كان عدوّا، يمكن أن تعتبر تهديدا وتحدّيا للسلطة الأبوية التي كان يتمتع بها الرجال زمن جينتيليسكي.
لكن الفنانة كانت ترى أن النساء قادرات على أن يتجاوزن دورهن الاجتماعي الهامشي والضيّق. وأكثر من هذا، فإن تفسيرها للقصّة يخوّل النساء أن يتصرّفن خارج إطار سيطرة الله.
وبالنتيجة، فإن تصويرها للخادمة وهي تشارك في قتل هولوفيرنس يبدو نابعا من منظور أنثوي واضح.
ولا بدّ وأن نلاحظ أن تمثيل كل من جينتيليسكي وكارافاجيو المتناقض للغة جسد هولوفيرنس في لحظات موته هي نتيجة لاختلاف منظوريهما. مثلا وكما ورد آنفا، فإن الخادمة في لوحة جينتيليسكي تمسك بالضحية وتثبّته أرضا بينما تطبق جوديث على رأسه في محاولة للسيطرة عليه وشلّ حركته.
وعلى النقيض من ذلك، فإن كارافاجيو - وكما هو متوقّع - يصوّر هولوفيرنس وكأنه يعرف أن الله قد هزمه. والدليل على هذا واضح على وجه الرجل. فهو ينظر إلى أعلى مدركا انه لن يكون بمقدوره أن يتجنّب غضب الربّ. ورغم أن جوديث تشدّ شعره بينما تقوم بفصل رأسه، فإنه لا جوديث ولا خادمتها مهتمّة بتثبيت جسده أرضا.
وهذه نقطة مهمّة تفترض أن هولوفيرنس كان قادرا على التصدّي للمرأتين ومقاومتهما لأنه غير مسيطَر عليه تماما.
وكارافاجيو يريد أن يقول ضمنا إن صراع هولوفيرنس كان مع الله فقط.
وفي حين أن لوحة جينتيليسكي تشير بوضوح إلى قوّة وسيطرة المرأتين على عدوّهما ومسئوليّتهما عن موته، يشدّد كارافاجيو من خلال أسلوبه في تصوير المرأتين على حاجتهما لمساعدة إلهية لكي ينفذا مؤامرتهما بنجاح.
وتضيف الكاتبة: إن جنس كلّ من الفنانَين يؤثّر في طبيعة نظرته إلى جوديث في مثل هذه الظروف. وكلّ منهما لديه استجابة جنسانية مختلفة تجاه موضوع وفكرة اللوحة.
فـ كارافاجيو في لوحته يؤكّد منظورا ذكوريا واضحا بتصويره جوديث حذرة ومتردّدة إلى حدّ ما. وهي تستخدم قوّتها "التي منحها إياها الربّ مؤقتا" كي تقتل عدوّها.
وفي لوحة كارافاجيو أيضا نرى هولوفيرنس وهو ينظر إلى السماء مدركا أن قدرة الله اكبر من قدرته. وكارافاجيو لا يرى أن موت هولوفيرنس تحقق فقط على يد امرأة شابّة متسلّحة بخنجر، لأنها في النهاية مجرّد امرأة ضعيفة ومحدودة القوى.
في حين أن لوحة جينتيليسكي تظهر جوديث بمظهر المرأة القويّة والشديدة البأس والحازمة. وهي ووصيفتها؛ المتساوية معها في حدود المسئولية، مسئولتان معا عن قتل غريمهما.
وهكذا يبدو جليا أن الاختلافات بين اللوحتين تعكس الفوارق الفردية بين جنسي الرسّامين.
فـ كارافاجيو يصوّر المشهد من منظور رجل، وجينتيليسكي تصوّره من منظور امرأة.